يعد التطور نحو القيادة الذاتية الكاملة (Fully Autonomous Driving) الهدف الأكبر لصناعة السيارات، ولكن الطريق إلى هناك مليء بالتحديات التكنولوجية والقانونية. حاليًا، تُعد نظم القيادة الذاتية من المستوى الثالث (Level 3 Automation) نقطة تحول حرجة وأكثرها تعقيدًا من الناحية التشغيلية والمسؤولية. يسمح المستوى الثالث للسيارة بالقيادة الذاتية في ظروف معينة (مثل الازدحام المروري على الطرق السريعة) دون حاجة السائق للمراقبة المستمرة. ومع ذلك، تتطلب هذه الأنظمة من السائق أن يكون مستعدًا لاستلام السيطرة فورًا عند طلب السيارة ذلك (Takeover Request). هذا التحدي الخاص بـ “تسليم السيطرة” والمسؤولية القانونية الناتجة عنه هو ما يُبقي معظم الشركات متحفظة في تبني هذا المستوى على نطاق واسع.
1. تعريف القيادة الذاتية من المستوى الثالث:
يُعرف المستوى الثالث بأنه “القيادة المشروطة بالتشغيل الآلي” (Conditional Automation). هذا يعني:
-
عيون مغمضة، عقل يقظ: يمكن للسائق أن يشغل نفسه بأنشطة أخرى (مثل مشاهدة فيلم أو تصفح الإنترنت) أثناء عمل النظام.
-
الظروف المحددة: يعمل النظام بكفاءة فقط ضمن “نطاق التشغيل التصميمي” (Operational Design Domain – ODD)، والذي قد يكون طريقًا سريعًا مُحددًا، وسرعات معينة، وفي ظروف جوية جيدة.
-
الاستلام الفوري (Takeover): عندما لا يتمكن النظام من معالجة موقف ما (مثل حادث مفاجئ، تغيير حاد في الطقس، أو نهاية الطريق المُسجل)، فإنه يصدر تحذيراً بضرورة أن يتولى السائق السيطرة البشرية خلال فترة زمنية قصيرة (عادةً بضع ثوانٍ).
2. تحدي “فجوة الاستلام” (The Takeover Gap):
أظهرت الدراسات أن الإنسان يجد صعوبة كبيرة في استعادة السيطرة فورًا بعد الانفصال الذهني عن مهمة القيادة. تُعرف هذه المشكلة باسم “فجوة الاستلام” أو “انتقال السيطرة” (Transition of Control):
-
وقت الاستجابة البشري: يحتاج السائقون إلى وقت (يُقدر بـ 5 إلى 15 ثانية) لـ “إدراك” الموقف المعقد، “تحليل” البيئة المحيطة، و”اتخاذ وتنفيذ” القرار المناسب. غالبًا ما تكون فترة التحذير التي يمنحها النظام قصيرة جدًا لمعالجة الأخطار المفاجئة.
-
الإرهاق والملل: عندما يسمح النظام للسائق بالانفصال عن القيادة، يؤدي ذلك إلى تدهور اليقظة. عندما يطلب النظام التدخل، يكون السائق أقل استعدادًا للإدراك السريع للمخاطر.
-
النزاع على المسؤولية: في حالة وقوع حادث في المستوى الثالث، يصبح التساؤل الجوهري هو: هل كانت السيارة لا تزال في ODD، وهل منحت السائق وقتاً كافياً للاستلام؟ هذا النزاع يُعقد قضايا التأمين والمسؤولية القانونية.
3. مستقبل التنظيم والتوجهات العالمية:
-
توجه الشركات: تفضل العديد من الشركات الكبرى (مثل فورد ووايمو) القفز مباشرة من المستوى الثاني (حيث السائق مسؤول دائماً) إلى المستوى الرابع (حيث تكون السيارة مسؤولة بالكامل في ODD)، لتجنب تحديات المستوى الثالث والنزاع القانوني.
-
التنظيم القانوني: بدأت بعض الأسواق (مثل ألمانيا واليابان) في وضع أطر قانونية تسمح بتشغيل المستوى الثالث وتحدد المسؤولية بوضوح. تنص هذه القوانين عادةً على أن الشركة المصنعة مسؤولة عن الحوادث التي تقع أثناء عمل النظام في ODD المحدد، شريطة أن يلتزم السائق بالتعليمات (مثل البقاء في مقعد القيادة).
-
الحاجة إلى المراقبة الدقيقة: تستخدم أنظمة المستوى الثالث كاميرات ومستشعرات متقدمة داخل مقصورة السيارة لمراقبة ما إذا كان السائق مستيقظًا وجاهزًا للاستلام، وإصدار تحذيرات متدرجة قبل فصل النظام.
في الختام، يمثل المستوى الثالث تحديًا هندسيًا وسلوكيًا عميقًا. إنها خطوة حاسمة في تطور القيادة الذاتية، لكنها تكشف عن التوتر القائم بين قدرة الآلة واليقظة البشرية. لضمان التبني الآمن والواسع، يجب أن توفر الشركات أنظمة لا تقلل فقط من تدخل السائق، بل وتضمن أنه جاهز عقلياً للعودة إلى السيطرة في اللحظات الحرجة، مع وضوح قانوني لا يقبل الجدل.













