كيف يُضيء الماضي عقول مرضى الخرف ويُحسّن صحتهم الدماغية

الصحة والجمال

استمع الي المقالة
0:00

 

نافذة على الذاكرة: العلاج بالتذكر.. كيف يُضيء الماضي عقول مرضى الخرف ويُحسّن صحتهم الدماغية؟

 

مرض الخرف، بكل أنواعه، يُشكل تحديًا كبيرًا يُؤثر بعمق على الأفراد المُصابين وعائلاتهم. فِمع تدهور الذاكرة والوظائف المعرفية، تُصبح الحياة اليومية مُربكة ومُجردة من الاتصال بالواقع. ومع أن لا يوجد علاج شافي لِلخرف حتى الآن، إلا أن هناك العديد من التدخلات غير الدوائية التي تُركز على تحسين جودة حياة المرضى وإدارة الأعراض. من بين هذه التدخلات، يبرز العلاج بالتذكر” (Reminiscence Therapy) كَنهج إنساني وفعّال يُسخر قوة الماضي لِدعم صحة الدماغ والنفس لِمرضى الخرف. هذا العلاج لا يُساعد فقط على استعادة ومُشاركة الذكريات، بل يُمكن أن يُؤثر بشكل إيجابي على الحالة المزاجية، التواصل، وحتى بعض الجوانب المعرفية، مُقدمًا نافذة على عوالم قديمة تُضيء حُلكة النسيان.

دعنا نتعمق في مفهوم العلاج بالتذكر، ونُفصل آليته، وكيف يُمكن للحديث عن الماضي أن يُحدث فرقًا حقيقيًا في صحة دماغ مرضى الخرف، بالإضافة إلى تقديم نصائح عملية لِتطبيقه بفاعلية.


 

1. الخرف: مرض يُطفئ شُعلة الذاكرة والوظائف المعرفية

 

الخرف ليس مرضًا واحدًا، بل هو مُصطلح شامل لِمجموعة من الأعراض التي تُؤثر على الذاكرة، التفكير، السلوك، والقدرة على أداء الأنشطة اليومية. يُعد الزهايمر هو النوع الأكثر شيوعًا من الخرف. مع تقدم المرض، تتلف الخلايا العصبية في الدماغ وتُصبح الروابط بينها ضعيفة، مما يُؤدي إلى فقدان تدريجي للوظائف المعرفية. يُعاني المرضى غالبًا من:

  • فقدان الذاكرة قصيرة المدى: صعوبة في تذكر الأحداث الأخيرة.
  • صعوبة في التخطيط وحل المشكلات.
  • مشاكل في اللغة والتواصل.
  • التوهان في الزمان والمكان.
  • تغيرات في المزاج والشخصية.

 

2. العلاج بالتذكر: العودة إلى الماضي لِإثراء الحاضر

 

العلاج بالتذكر هو تدخل غير دوائي يُستخدم بشكل واسع في رعاية مرضى الخرف وكبار السن. يهدف إلى تشجيع المرضى على استدعاء الذكريات والأحداث الماضية، خاصًة تلك التي تُثير المشاعر الإيجابية. يُمكن أن يُمارس هذا العلاج بشكل فردي أو جماعي، ويُمكن أن يشمل استخدام مُحفزات حسية لِتسهيل عملية التذكر.

  • آلية عمل العلاج بالتذكر:
    • تنشيط المسارات العصبية القديمة: على الرغم من أن الذاكرة قصيرة المدى قد تُصاب بالضرر الشديد في الخرف، إلا أن الذكريات القديمة والراسخة (خاصًة تلك المُتعلقة بالأحداث الشخصية الهامة والعاطفية) غالبًا ما تُحفظ بشكل أفضل. عندما يُستدعى المريض هذه الذكريات، فإنه يُنشط المسارات العصبية التي لا تزال سليمة في الدماغ.
    • تحفيز خلايا الدماغ: عملية التذكر تُحفز خلايا الدماغ وتُعزز الروابط العصبية، حتى لو بشكل مؤقت. هذا يُمكن أن يُساهم في إبطاء التدهور المعرفي لِبعض الوقت أو تحسين الوظائف المُتبقية.
    • تعزيز إفراز النواقل العصبية: يُمكن أن يُؤدي استدعاء الذكريات الإيجابية إلى إفراز نواقل عصبية مثل الدوبامين (Dopamine) والسيروتونين (Serotonin)، التي تُحسن المزاج وتُقلل من القلق والاكتئاب.
    • تحسين التواصل اللفظي وغير اللفظي: مُشاركة الذكريات تُشجع المريض على التحدث، حتى لو كانت الجُمل مُتقطعة. كما تُعزز التواصل غير اللفظي من خلال تعابير الوجه، الابتسامات، ولغة الجسد.
    • الشعور بالهوية والقيمة الذاتية: عندما يتذكر المريض أحداثًا من حياته، فإنه يشعر بالاتصال بِمَن هو، ويُعزز لديه الشعور بالهوية والقيمة الذاتية، ويُقلل من شعوره بالضياع والارتباك.
    • تقليل السلوكيات المُضطربة: يُمكن أن يُساعد في تقليل القلق، الإثارة، العدوانية، والتجول، لِأنه يُوفر للمريض نشاطًا مُريحًا ومُهذبًا.

 

3. كيف يؤثر الحديث عن الماضي على صحة دماغ مرضى الخرف؟ (بالتفصيل)

 

الحديث عن الماضي لا يُعيد الذكريات فحسب، بل يُؤثر على صحة الدماغ بطرق مُتعددة:

  • أ. تقوية الروابط العصبية المتبقية:
    • الدماغ مثل العضلة، يحتاج إلى التمرين. عندما يُحاول المريض استدعاء الذكريات، فإنه يُنشط الشبكات العصبية المُتعلقة بتلك الذكريات. حتى لو كانت الذكرى جزئية، فإن مُجرد مُحاولة الوصول إليها يُعزز الاتصالات بين الخلايا العصبية ويُمكن أن يُحافظ على وظائفها الحالية.
    • هذا لا يعني أن العلاج يُوقف تقدم المرض، ولكنه يُمكن أن يُساعد في الحفاظ على الوظائف المعرفية المُتبقية لِفترة أطول.
  • ب. تحفيز مناطق الدماغ المُتعددة:
    • التذكر ليس مُجرد عملية ذاكرة. إنه يُشرك مناطق مُتعددة من الدماغ:
      • الفص الجبهي: لِتنظيم الأفكار وتنسيق السرد.
      • الفص الصدغي: لِمعالجة الذكريات السمعية (القصص) واللغة.
      • الفص القذالي: إذا تم استخدام مُحفزات بصرية (صور).
      • الجهاز الحوفي (Limbic System): المُسؤول عن المشاعر، حيث تُثير الذكريات استجابات عاطفية مُختلفة.
    • هذا التنشيط الشامل يُمكن أن يُحسن من تدفق الدم إلى هذه المناطق ويُعزز مرونتها العصبية.
  • ج. تعزيز القدرة على التواصل واللغة:
    • عندما يتحدث المريض عن ذكرياته، فإنه يُمارس مهارات اللغة والتواصل. هذا يُمكن أن يُحسن من قدرته على التعبير عن نفسه، فهم الآخرين، وحتى يُقلل من الإحباط الناتج عن صعوبات التواصل.
    • قد تُساعد الذكريات اللفظية في استعادة بعض الكلمات أو الجمل المفقودة.
  • د. تحسين المزاج وتقليل السلوكيات السلبية:
    • يُعد التحسن في المزاج أحد أبرز فوائد العلاج بالتذكر. استدعاء الذكريات السعيدة يُقلل من الاكتئاب، القلق، والتهيج التي غالبًا ما تُصاحب الخرف.
    • المريض الذي يشعر بالراحة والسعادة يكون أقل عُرضة لِلتجول، أو الصراخ، أو مقاومة الرعاية.
  • هـ. إعادة الاتصال بالواقع والهوية:
    • في ظل الخرف، قد يشعر المريض بالضياع وفقدان الهوية. مُشاركته لِقصص حياته تُعيده إلى إحساس بالذات، وتُذكره بِمَن هو وبِتجاربه الغنية، مما يُعزز شعوره بالكرامة.
  • و. تقليل العبء على مُقدمي الرعاية:
    • عندما يكون المريض أكثر هدوءًا وتواصلًا وسعادة، فإن هذا يُقلل من الإجهاد على مُقدمي الرعاية (الأهل أو الممرضين)، ويُحسن من جودة العلاقة بينهم.

 

4. كيفية تطبيق العلاج بالتذكر بفاعلية: نصائح عملية

 

لِتحقيق أقصى استفادة من العلاج بالتذكر، يُمكن لمقدمي الرعاية والأسر اتباع الخطوات التالية:

  • أ. استخدام المُحفزات الحسية:
    • الصور الفوتوغرافية: ألبومات العائلة القديمة، صور مناسبات الزواج، الأطفال، الأماكن التي عاشوا فيها.
    • الموسيقى: الأغاني التي كانت شائعة في شبابهم، موسيقى تُذكرهم بَأحداث مُعينة (مثل الزفاف).
    • الأشياء الملموسة: أدوات كانت تُستخدم في الماضي، ملابس قديمة، عملات معدنية قديمة، أدوات هواياتهم.
    • الروائح: روائح مُعينة (مثل رائحة خبز الأم، عطر قديم، رائحة زهور مُعينة).
  • ب. خلق بيئة داعمة ومُريحة:
    • اجلس في مكان هادئ ومُريح وخالٍ من المُشتتات.
    • كُن صبورًا ومُتفهمًا، ولا تُصحح الذكريات المُشوهة بِشدة، الأهم هو المُشاركة والمشاعر.
  • ج. طرح أسئلة مفتوحة ومُشجعة:
    • بدلًا من “هل تتذكر هذا؟” قل: “أخبرني المزيد عن هذه الصورة؟” أو “ماذا تتذكر عن هذا الوقت؟”.
    • ركز على المشاعر والتجارب بدلًا من التفاصيل الدقيقة التي قد تُسبب الإحباط.
  • د. المُشاركة الفعالة:
    • شارك أنت أيضًا بِذكرياتك لِتُشجع المريض وتُقوي الرابط.
    • كُن مُستمعًا جيدًا، وقدم ردود فعل إيجابية (ابتسامة، إيماءة الرأس، كلمة تشجيع).
  • هـ. تكييف العلاج مع اهتمامات المريض:
    • اختر موضوعات تُثير اهتمام المريض وشغفه (العمل، الهوايات، الأحداث التاريخية التي عاشها، الأسرة).
  • و. الاستمرارية والروتين:
    • خصص وقتًا مُنتظمًا (حتى لو كان 15-30 دقيقة عدة مرات في الأسبوع) لِجلسات التذكر لِتثبيت الفائدة.
  • ز. تدوين الذكريات (اختياري):
    • لِبعض العائلات، قد يكون تدوين الذكريات المُشتركة (في دفتر أو تسجيل صوتي) طريقة لِلحفاظ عليها لِلأجيال القادمة ولِتعزيز شعور المريض بالإنجاز.

 

الخلاصة: الماضي يُصبح ركيزة لِحاضر أفضل

 

إن العلاج بالتذكر يُقدم نهجًا إنسانيًا وعميقًا لِدعم مرضى الخرف، مُستثمرًا في قوة الذاكرة والاتصال العاطفي. فِمن خلال استعادة القصص والأحداث من الماضي، يُمكننا أن نُضيء عقولهم، نُحفز أدمغتهم، نُحسن حالتهم المزاجية، ونُعزز قدرتهم على التواصل والشعور بَأهميتهم. على الرغم من أن هذا العلاج لا يُشكل علاجًا لِلخرف، إلا أنه يُقدم أداة قوية لِتحسين جودة حياة المرضى وذويهم، مُجددًا الأمل في أن يبقى الماضي نافذة مُضيئة تُثري الحاضر وتُخفف من وطأة النسيان.