أحضان دافئة أم خناجر مسمومة بين المتنافسين!
في دنيا المظاليم كثر من أصحاب المواهب لم يحققوا ما يستحقون، من نجاح سواء على المستوى الأدبي أو المادي، إلا أن الإبداع لا يموت، سيكتشف كل من أمسك يوماً بوهج النور أن النور ينتظره في اللحظة المواتية، وفي نهاية النفق المظلم سيمسك بيديه بقعة الضوء.
التقيت مطلع الثمانينيات موسيقاراً كبيراً، وهو أيضاً فنان تشكيلي، من بين قلة قدمت إضافات خاصة على المستوى الإيقاعي النغمي في موسيقانا الشرقية، إنه الموسيقار الكبير أحمد صدقي.
الحكاية أنه في عام 53 وأثناء إعداد فيلم (ريا وسكينة) بطولة نجمة إبراهيم وزوزو حمدي الحكيم وأنور وجدي رشحه المخرج صلاح أبو سيف، لوضع الموسيقى والأغاني، وأشهرها (يا ختي عليها/ يا ختي عليها) لحظة الفوطة المبلولة على الفم ثم طقوس نزع الأساور الذهبية من النساء قبل التخلص من الجسد.
إنه الفيلم الذي صور قبل نحو سبعة عقود من الزمان، وليس قطعا المسرحية الشهيرة التي لعبت بطولتها شادية في الثمانينيات.
الموسيقار أحمد صدقي هو الأغزر موسيقياً على المستوى الشرقي، تعثرت النغمة المطلوبة، تواصل مع صديقه ومنافسه ابن مدينة الإسكندرية الموسيقار محمود الشريف، وهو يضحك قائلاً (هربت مني)، وفجأة ضحك وأخذ يغني (يا ختي عليها يا ختي عليها)، والشريف يقول له (أعد يا أستاذ أعد)، كثيراً ما كان الشريف يسمعه بعض أغانيه التي لحنها لليلي مراد متطلعا لرأيه.
التنافس له وجه آخر إيجابي، لأن تقديم نغمة جميلة لمنافس لك في نفس المجال، يدفعك لا شعورياً لتقديم الأجمل. ربما تجد لهذا الموقف صدى مباشراً وشهيراً في الخمسينيات، تلك العلاقة بين الملحنين الكبيرين محمد الموجي وكمال الطويل، تنافس، ونجاح طاغ والهدف المشترك تدشين عبد الحليم حافظ، النغم الأحلى والأعمق والأكثر شعبية، الموجي يصعد جماهيرياً، بعبد الحليم في أغنية (صافيني مرة) 53، فيقرر الطويل أن يطير به لأعلى 54 في أغنية (على قد الشوق)، استأجر الطويل والموجي مكتباً واحداً وسط مدينة القاهرة، على مقربة من مبنى الإذاعة، وكان كل منهما يسمع الآخر اللحن قبل اكتماله النهائي.
روي لي الكاتب الكبير الراحل وحيد حامد عن صداقة جمعت كل من المخرجين سمير سيف وعاطف الطيب، وحقيقة الأمر لم أكن أدري شيء من قبل عن تلك الصداقة، تصورتها مجرد زمالة فقط، بعد أن رشح وحيد حامد المخرج سمير سيف لإخراج سيناريو (التخشيبة)، قال له سمير بعد القراءة: (عاطف الطيب، سيقدمه على الشاشة أفضل مني).
وبالفعل أصبح الفيلم أحد أهم عناوين الطيب ووحيد ونبيلة عبيد وأحمد زكي.
النفوس الدافئة تستطيع في لحظات أن تعلو على التنافس، لتدرك أن النجاح، يتسع لأكثر من مجال ورؤية وعين ومذاق، وإنك جميل في لون، وهناك من هو جميل في لون مغاير.
مثلاً الثلاثية الشهيرة لنجيب محفوظ (بين القصرين) و(قصر الشوق) و(السكرية)، كانت بين يدي المخرج الكبير صلاح أبو سيف، الذي تربطه قناعة فكرية وشخصية وفلسفيه قطعا مع نجيب محفوظ، عندما بدأ يقرأ بعين المدقق النص الدرامي باعتباره مسؤولاً في مؤسسة السينما الرسمية، جاءت الإجابة المباشرة على الفور، أنه حسن الإمام أفضل مني في هذا اللون.
وعندما سألته قال لي الأستاذ صلاح، حسن الإمام فعلاً تجاوزني في تلك المساحة، لا أنا ولا يوسف شاهين حققنا جماهيرية حسن الإمام في الشارع، وعمق ثلاثية محفوظ، في توفر هذا الحس الشعبي الجماهيري.
التنافس أكسير الحياة، وفي كل المجالات، ولكن، هناك وجه آخر للصورة، عندما يدفع الجميع لمزيد من الإجادة، وما أحوجنا الآن لهذا النوع من التنافس، بدلاً من الخناجر المسمومة، التي نراها مشهرة بين عدد من النجوم والنجمات!