ذكريات من عام فات (7 × 7= 49).
علاقتي بالمستشفيات لا تتجاوز ما أراه في الأفلام والمسلسلات، إضافة إلى زيارات سريعة عند الضرورة للأصدقاء والأقارب، وقبل نحو عام وفي مثل هذه الأيام زارتني الملعونة، ولم تطبق المثل الشهير (يا بخت من زار وخفف)، أثقلت في زيارتها، ووجدت نفسي لأول مرة أعيش نحو أسبوع في حجرة داخل مستشفى للعزل، بعد أن ضربني الفيروس بقوة.
الحكاية بدأت بكحة خفيفة، قالت لي صديقتي المخرجة هالة خليل ونحن في اجتماع تابع لأحد لجان وزارة الثقافة (كحتك مش عاجباني)، تجاهلت المعنى تماماً الذي تشير إليه، إلا أنها أضافت (أنا تعافيت قبل أربعة أشهر من كورونا، وبقولك كحتك صعبة)، قلت مع نفسي، هو أنا مثلاً الموسيقار محمد عبد الوهاب الذي كان دائم (النحنحة) قبل الغناء، لأنه يتوجس خيفة من احتمال غياب صوته، هي تري أن كحتي صارت نشازا، وأنا ليس مطلوباً مني أساساً الغناء.
أول خط دفاع للمريض غالباً هو الإنكار، وهو أسوأ اختيار من الممكن أن يؤدى إلى نتائج وخيمة جداً، أمضيت يومين مستندا إلى بقاء حاستي الشم والتذوق في عز قوتهما، وهو ثان قرار كارثي، الفيروس قد تسلل وبدأ رحلة الغزو بضراوة، طلب أحد الدكاترة الأصدقاء، إجراء تحليل دم، ولم أنفذ بالإيقاع المطلوب، خسرت يومين، ثبت (كوفيد بتحليل الدم) ثم أشعة مقطعية أكدته، بدأت معركة المضادات الحيوية، بينما الفيروس يوجه ضرباته القاسية، وأجريت مقطعية ثانية بعد أن أوصى الطبيب بضرورة نقلي إلى المستشفى لهبوط الأوكسجين، المقطعية الثانية أشارت إلى صعوبة الموقف.
سمعتهم يقولون الغرفة رقم (49)، أول ما أنتظره للتفاؤل عند الإقامة في أحد الفنادق هو رقم الغرفة 7 أو مشتقاته، الرقم بعيداً تماماً عن تحقيق هذا الهدف، ثان اختبار لي في حكاية الرقم هو حاصل الجمع 9+4 (يا داهية دقي) = 13.
ربما في فندق أو على مائدة عشاء ممكن التغيير، لكن في العزل ليس من حق أحد أساساً السؤال، تسكين الإنسان في المستشفي يتم في ثوان، ويغلق بعدها الباب.
خسرت الضربة الأولى، بعد أن نزع الرقم من قلبي أي إحساس له علاقة بالتفاؤل.
على الفور أجريت الأشعة المقطعية الثانية داخل الجهاز الحديدي، أصوات إيقاع مزعج، وتلمح وجهاً ضاحكاً داخل الجهاز، لا أعرف بالضبط، ما الحكمة وراء كل ذلك، أكدت المقطعية الثانية أن الضربة قوية، وتم زيادة جرعات الدواء المضاد لهذا المتوغل الشرس.
شعرت بنيران الحريق، في صدري، ارتديت ماسك أوكسجين خوفاً من تناقص الرقم عن الحد الأدني 92، سمعت ممرضة كانت تعتقد أني نائم تدعو: (ربنا يشفيك ويعافيك)، كان صوتها في تلك اللحظة أحلى مليون مرة من كاظم الساهر وهو يردد (سلامتك من الآه)، المقطعية الثالثة أشارت إلى أن هناك استجابة فورية للعلاج، وأن الأمل اقترب.
بين كل ذلك كنت أخشى من شيء واحد، ضياع التواصل مع الدنيا خارج العزل، الهاجس سقوط (النت) وفقدان الشاحن هو الكابوس، أتابع الأخبار بينما عشرات من دعوات اللقاء عبر الهواء أو للتسجيل من قنوات مصرية وعربية عن دراما رمضان، تأتي لي أعتذر عنها كلها (أنا في إيه ولا في إيه).
داخل العزل وكأنك في معتقل، وعلى البعد أستمع إلى أنات المرضى من الحجرات الأخرى، وأشعر بالضبط كأنها ألامي، الروح تسمو والجسد يئن.
أعظم تجربة في الألم هي السمو حتى عن صغائر البشر، لا أتمنى الألم لأحد، حتى من يحمل بداخل قلبه كراهية شخصية لي، أتمنى ألا يعيش هذه التجربة. عدت لمنزلي، وبدأت معها رحلة استعادة اللياقة، المرض يسمو بأرواحنا، وهكذا تسامحت وتصالحت وسموت ونجيت، وأمسكت النجوم في يدي.
مر عام ونسيت الكثير من التفاصيل والآلام والمخاوف، ولم يبق سوى أن الرقم الذي تشاءمت منه في البداية كان يستحق مني الحفاوة، بل تفاؤل مضاعف، عندما تذكرت أن (7×7=49).