كيف أطل بليغ والموجي والطويل على عبد الوهاب؟

لايت نيوز

استمع الي المقالة
0:00

كيف أطل بليغ والموجي والطويل على عبد الوهاب؟

شيء في قلمي | كتب : طارق الشناوي

الحقيقة التي تراها ليست هي بالضبط حقيقة الحقيقة، كل منّا له زاوية رؤية، يتصوّر بعدها أنه يمتلك وحده الرؤية المطلقة، بينما الصورة التي يراها هي مزيج من الواقع مع رتوش من الخيال أضافه لا شعورياً.

وإليكم مثلاً الموسيقار الكبير محمد عبد الوهاب في عيون ثلاثة من تلاميذه، كل منهم يرسم له (بورتريه)، ويضع التفاصيل واللمسات الأخيرة، متصوّراً أنها فقط اللوحة الصادقة.

عندما نتناول شخصية محورية في زمانها، مثل عبد الوهاب، من الممكن أن تُطل عليه بالعديد من الزوايا.

هذه المرة أراه بعيون ثلاثة من الملحنين محمد الموجي وكمال الطويل وبليغ حمدي، شكلوا الجيل التالي الذي خرج من معطف الأستاذ، وفي نفس الوقت تمرّد على الأستاذ.

الموجي كان أكثر الثلاثة اعترافاً بالأستاذ، فهو مثله الأعلى، تمنّى أن يصبح عبد الوهاب، ولهذا تقدم للإذاعة كمطرب، إلا أن لجنة الاختيار رفضته بالإجماع مطرباً.

ومنحته الموافقة بالإجماع ملحناً، الموجي كان يناله بين الحين والآخر ضربات (وهابية)، منها أنه قد يجد بعض ظلال من ألحانه منسوب للأستاذ، الموجي كان يغضب في حضرة الأستاذ، ثم يلتزم الصمت، الطويل على النقيض، يعلو صوته لو لمح شيء من موسيقاه استحوذ عليه الأستاذ، ولهذا كان كثيراً ما يحدث بينهما جفاء.

ورغم ذلك أتذكر أنني سألت الأستاذ كمال الطويل، لماذا لم يلحن “أنت عمرى” بعد أن رشحته أم كلثوم نكاية في عبد الوهاب الذي كان قد تقاعس عن استكمال اللحن؟ فقال لي كانت الجماهير تنتظر لقاء العملاقين، ولم أشأ أن أفسد هذه اللحظة، سألته عن رأيه في “أنت عمري” كما لحنها عبد الوهاب؟ أجابني من أروع أغانينا العربية.

مع بليغ كان الأمر شديد الالتباس إنسانياً وفنياً، حال عبد الوهاب دون زواج ابنته (أش أش) من بليغ، أما فنياً فلقد قال إن بليغ (رخص الغناء)، كان يرى أن بليغ هو أكثر موسيقار يأتي إليه الإلهام من السماء، لكنه لا يجتهد كثيراً في التعايش مع الجملة الموسيقية، فيقدمها قبل أن تختمر في أعماقه إبداعياً.

وكان عبد الوهاب يستخدم تعبير (بعبلها)، واصفاً الجُمل الموسيقية لبليغ.

عبد الوهاب كان يعلم أنه حتى يواصل البقاء على القمة، عليه أن يهضم مفردات الجيل الجديد، ومن هنا مثلاً من الممكن أن تجد تفسيراً لكلمة قالها كمال الطويل في تحليله لموسيقى محمد عبد الوهاب.

فهو يصفه بـ(النشافة) يأخذ مما يقدمه العصر، كل ملحني الزمن الذي عايشه تجد بأسلوب غير مباشر أن عبد الوهاب أخذ منهم لمحة ما، لم يكن عبد الوهاب ابن الزمن الذي سبقه فقط، لكنه ابن الزمن الذي يعيشه، يتابع تلاميذه بنفس القدر من الاهتمام الذي هضم به إنجاز كل من سبقوه، وعلى رأسهم سيد درويش.

كان عبد الوهاب يرى أن الغزارة الموسيقية لبليغ حمدي سلاح ذو حدين، وكان معروفاً أن بليغ هو أكثر ملحن عرفه العالم العربي، ويمتلك كل هذه الخصوبة.

ولا يتفوّق عليه في الغزارة سوى الموجي، بليغ يحظى دائماً بالمرتبة الأولى في تحقيق أكبر أداء علني، وعلى مدى تجاوز 40 عاماً فإن ترتيب بليغ حمدي يأتي في المقدمة. ما الذي يعنيه هذا سوى أن موسيقى بليغ لا تزال تنبض بالحياة.. عبد الوهاب يأتي في المركز الثاني، يجب ملاحظة أن ما قدمه بليغ حمدي يتجاوز في العدد ضعف – على أقل تقدير – ما قدمه عبد الوهاب، رغم أن عبد الوهاب عاش حتى تجاوز التسعين بينما بليغ غادرنا في الستين من عمره!

“عبد الوهاب” شكّل بالنسبة لكل الأجيال التي جاءت بعده علاقة تحمل تقديراً، وفي نفس الوقت قدراً لا ينكر من التوجس، مثلاً كان محمد الموجي وكمال الطويل وعبد الحليم حافظ قد تعاهدوا في بداية المشوار ألا يجعلوا عبد الوهاب يفرّق بينهم، إلا أن عبد الوهاب منذ الخمسينيات استطاع أن يخترق هذا الحصار وبذكاء يرتبط مع عبد الحليم بمشروع فني اقتصادي، وهو شركة “صوت الفن”.

نعم عبد الوهاب كان يشعر بالغيرة المشروعة، من كل جديد موهوب يتابعه يتأمله يهضمه، كان يحيل الغيرة إلى طاقة إبداعية إيجابية، تمنحه البقاء في تاريخنا الموسيقي، معتلياً القمة وحتى الآن.

رؤية عبد الوهاب خضعت لثلاث زوايا مختلفة، ولو عدت إلى ملحن معاصر لعبد الوهاب مثل الشيخ زكريا أحمد الذي قدم صورة رابعة، سألوا الشيخ زكريا عام 1948 لماذا منحت صوتك لأم كلثوم كنقيب للموسيقيين ولم تمنحها لعبد الوهاب؟ جاءت إجابته صادمة (أم كلثوم أرجل من عبد الوهاب)!