صحفيون.. يطاردون السفاح!!
ذكريات صحفية | كتب : أحمد عمر
مؤسس ورئيس تحرير مجله ماجد الأسبق
رغم أن هذا الحدث وقع منذ أكثر من ٦٠ عامًا، إلا أنني مازلت أتذكر وقائعه!
تصور ماذا يحدث حين يتحول الصحفيون إلى رجال بحث جنائي، يطاردون مجرمًا أدخل الرعب في كل بيت، وجعل الكثيرين يقيمون أبوابًا من الفولاذ خوفًا من هذا السفاح.
أحداث القصة جرت عام 1960، حين شاعت أنباء عن مجرم خطير اسمه محمود أمين سليمان، يقتل ويسرق ويختفي، وأن الشرطة تطارده في كل مكان دون جدوى.
هذا القاتل دخل السجن وخرج أكثر شراسة، قدر عدد الجرائم التي ارتكبها بـ58 جريمة.
حقيقة هذا المجرم، أو بمعنى أدق سبب تحوله إلى الإجرام، هو شكه في سلوك زوجته وعلاقتها بمحاميه أثناء وجوده في السجن.
ظل يطارد زوجته والمحامي، وفي طريقه يرتكب جرائم السرقة والاعتداء، حتى تحول إلى كابوس جعل الناس تعتكف في بيوتها ليلًا.
لماذا أروي لكم هذه القصة، التي أوحت لكاتبنا العملاق نجيب محفوظ أن يقتبس منها رواية «اللص والكلاب»، التي تحولت إلى فيلم سينمائي فيما بعد، وما زال يُعرض حتى الآن.. أروي أحداثها، لأنني أصبحت مشاركًا فيها بحثًا عن السفاح.
كنت في بدايات عملي الصحفي في أخبار اليوم، أعمل محررًا في قسم يرأسه الصحفي الشهير عبدالسلام داوود، الذي كان في الوقت نفسه نائبًا لرئيس تحرير جريدة الأخبار.
يومها توصل الصحفي العملاق مصطفى أمين، صاحب جريدة الأخبار، لاتفاق مع وزارة الداخلية على تشكيل فرقة صحفية تبحث عن السفاح، بوسائل مختلفة غير تلك التي تتبعها الشرطة.. كان على هذه الفرقة المكونة من عشرة صحفيين أن تبحث عن أي خيط يقود إلى المجرم، وأن تلتقي كل من له صلة به.
انضم إلى هذه المجموعة ضابط كبير من المباحث الجنائية، شرح لنا أساليب البحث، وطالبنا بإبلاغه بأية معلومات مهما كانت بسيطة.
أعطت أخبار اليوم لكل مشترك في البحث عن السفاح عشرة جنيهات، لمواجهة النفقات.. هذا مبلغ كبير إذا علمت أن راتبي الشهري في هذا الوقت كان خمسة جنيهات. وبدأنا البحث!
كان الخيط الذي أتتبعه يتعلق بفنانة تعمل في ملهى ليلي اسمه كوبا كوبانا بالاس، بوسط القاهرة.. كان من أكبر الملاهي الليلية وأكثرها شهرة.
في المساء توجهت إلى الملهى وطلبت عشاء، ثم بدأت التحري عن الفنانة التي قيل إن السفاح على علاقة بها.. سألت أحد العاملين عنها، فشعرت بأنه أصيب بحالة من الفزع.. يبدو أن العاملين بالملهى كانوا يعرفون علاقة السفاح بهذه الفنانة.. تركني الرجل دون استئذان، وغاب بضع دقائق، وعاد ومعه عملاقان مفتولا العضلات، طلبا مني ترك المكان فورًا، وألا أقترب منه ثانية.. لم يتركا لي فرصة لحديث ولا حتى لدفع ثمن العشاء الذي تناولته.. اصطحباني إلى الباب، وحذراني من الاقتراب.. هكذا فشلت في أول محاولة لأكون شرطيًا ذكيًا.
في اليوم التالي توجهت مع عدد من الزملاء لنواصل البحث عن السفاح، بعد معلومات تلقيناها أنه في منطقة حلوان.. ذهبنا بالفعل وشاركنا في البحث وقررنا أن نكتفي بذلك اليوم ونستأنف نشاطنا في اليوم التالي. ركبنا سيارة عبدالسلام داوود، واقتربنا من مصر القديمة.. لاحظنا حركة غير عادية في الطريق.. لاحظنا عشرات من سيارات الشرطة ومدرعات خفيفة و«ونش» وسيارات إسعاف، تسرع في الطريق إلى حلوان.. ماذا جرى؟
لا بد أن هناك حدثًا مهمًا.. قرر عبدالسلام داوود أن نعود إلى حلوان لنعرف ماذا جرى؟
قُرب منطقة المعادي لاحظنا أن الجميع يتجهون إلى المنطقة الصحراوية المحيطة.. توجهنا إلى هناك، وجدنا أن الشرطة قد أقامت طوقًا حول المنطقة، التي وردت منها أنباء أن السفاح يختفي هناك.
أسرعنا نشارك معهم في البحث.. عرفنا من أحد كبار الضباط أن السفاح تخلص من الجاكيت الخاص به أو نسيه، وأن الكلب البوليسي أرشدهم إلى مكان اختبائه في إحدى المغارات، التي حاصرتها الشرطة ونحن معهم، ودارت مناقشات مع السفاح، حيث طالبوه بتسليم نفسه لكنه خشي أن يقتلوه إذا خرج.
وأذكر أن أحد فريق أخبار اليوم للبحث، وهو مصطفى سنان، استطاع أن يقترب من مدخل المغارة، التي يختبئ فيها السفاح، وأن يجري معه حديثًا اتهم فيه- السفاح- زوجته ومحاميها بأنهما دفعا به إلى عالم الجريمة.
انتهت القصة بأن ألقت الشرطة قنبلة دخان داخل المغارة، لم يحتمل السفاح، وبدلًا من الاستسلام واجه الشرطة بسلاح ناري يحمله، مما اضطرهم إلى قتله، لتنتهي بذلك قصة واحد من أشهر المجرمين.
وإن كانت القصة قد انتهت جنائيًا، إلا أنها فجرت قضية أخرى أكثر غرابة!
اهتمت الصحف بنشر الخبر في صفحاتها الأولى، وأبرزت صور السفاح القتيل.
ونشرت جريدة الأخبار الخبر كعنوان رئيسي على الصفحة الأولى.
كتبت:
مصرع السفاح
عنوان رئيسي أعلى الصفحة الأولى.
من سوء الحظ كان الرئيس عبدالناصر في هذا اليوم قد بدأ زيارته لباكستان، وكتبت الصحيفة عنوان الصفحة الأولى الرئيسي هكذا:
عبدالناصر في باكستان
وهكذا أصبحت عناوين الصفحة الأولى في الأخبار:
مصرع السفاح
عبدالناصر في باكستان
جرت تحقيقات مكثفة في أخبار اليوم، وعوقب المسئول عما حدث.. بالتأكيد لم يكن يقصد!!
ما زالت للذكريات بقية
نلتقي الشهر المقبل بإذن الله