دموع الغزالة حرمتني من وجبة شهية!
ذكريات صحفية | بقلم : أحمد عمر
مؤسس ورئيس تحرير مجلة ماجد الأسبق
أواصل الحديث عن ذكرياتي في عالم صاحبة الجلالة، التي امتدت أكثر من ستين عاماً! أثناء عملي بقسم التحقيقات الصحفية، اقترحت أن يمتد نشاطنا إلى المناطق الحدودية البعيدة، لننقل صورة من الحياة هناك. صورة على الطبيعة.
اخترت منطقة حلايب على الحدود بين مصر والسودان. كيف أصل إلى هناك والمسافة تصل إلى نحو ٢٠٠٠ كيلومتر، ولا توجد وسائل مواصلات.
صعب جداً الوصول إلى هناك مستقلاً سيارة عادية، خاصة أن جانباً كبيراً من الطريق غير ممهد، ولا توجد محطات للتزوّد بالوقود. عرفت أن هناك شركة مصرية تعمل في مجال الفوسفات في منطقة حلايب، وأن هناك المئات من المهندسين والعمال يعملون هناك.
استعنت بالشركة للوصول إلى المنطقة عبر الوسيلة المتاحة للنقل، وهي سيارة نقل ضخمة، تحمل المؤن للعاملين بالشركة هناك.
ركبت أنا والمصور قطار الصعيد حتى الأقصر.
وهناك كانت في انتظارنا سيارة النقل، التي ركبنا فوقها، لنقطع المسافة الطويلة إلى حلايب، في طرق معظمها غير ممهد. لكم أن تتخيلوا المشقة التي واجهناها في الرحلة التي استغرقت أكثر من يومين فوق سيارة نقل محملة بالبضائع.
كنا شباب في العشرينيات، تحملنا المشقة في سبيل سبق صحفي، ربما كنا أول صحفيين وصلوا إلى حلايب، حيث يعمل مئات المصريين في مناجم الفوسفات.
رحبوا بنا ترحيباً بالغاً، وتركوا لنا أسرِّتهم المتواضعة لننام عليها، ونستريح قبل أن نبدأ نشاطنا في اليوم التالي.
الحياة التي كان يعيشها عمال شركة الفوسفات كانت شاقة جداً، لكنهم كانوا سعداء بها. كانوا يعتمدون على الأطعمة المعلبة، وكانت أكبر مشكلاتهم المياه التي يحتفظون بها في براميل أياماً طويلة.
في اليوم التالي، وللحفاوة بالبعثة الصحفية، قرروا اصطحابنا في سيارة جيب لاصطياد غزالة، تكون على مائدة عشائنا، اصطياد الغزالة يتطلب مطاردتها بالسيارة مدة طويلة حتى تسقط من الإعياء، ولا بد من ذبحها في هذه اللحظة، وإلا أصبح لحمها مرّاً ولا يصلح للأكل.
فعلاً عندما سقطت الغزالة على الأرض أسرع أحد العمال لذبحها. في هذه اللحظة التقت عيني بعيني الغزالة. كانت مليئة بالدموع، وكأنها تستنجد بي لإنقاذها من الذبح. مشهد ما زلت أتذكره حتى الآن.
احتفل الجميع بشواء الغزالة، ممنين النفس بوجبة شهية، كنت أنا والمصور ضيوف الشرف فيها. حين امتدت يدي لالتقاط قطعة من لحم الغزالة استرجعت مشهد الدموع في عينيها قبل ذبحها. كانت النتيجة أنني لم أتذوّق طعم لحم الغزالة الذي أخبرني زميلي المصور أنه شهي جداً!
أين اختفى سرير الرسام؟
في الأسابيع الأخيرة التي سبقت تحويل مجرى النيل، والانتهاء من بناء السد العالي، كلفت جريدة الأخبار بعثة من كبار كتابها ورساميها ومصوريها للتوجه إلى أسوان وتغطية الحدث البالغ الأهمية. ضمت البعثة مدير التحرير والكاتب الشهير نعمان عاشور، والرسام العبقري مصطفى حسين وآخرين. كنت سعيد الحظ بأن أشاركهم الرحلة.
لم تكن هناك أماكن كافية في الفنادق، لذلك تقرر أن ينام كل اثنين في غرفة. اختار الرسام مصطفى حسين أن يكون معي في نفس الغرفة. أسعدني ذلك، خاصة أنه إنسان رقيق دمث الخلق.
حان وقت النوم، كان في الغرفة سريران صغيران، نام كل منا على سرير. أطفأنا الأنوار استعداداً النوم. بعد مرور أكثر من ساعتين استيقظت على صوت حركة غير عادية. الظلام دامس.
لم أفكّر في إضاءة الأنوار حتى لا أزعج زميلي في الغرفة. استمرت الأصوات، وكأن شيئاً ينقل، ويتحرك. استمر هذا الصوت بضع دقائق قبل أن يتوقف تماماً.
حاولت استكمال النوم فلم أستطع. كنت أشعر بالقلق. ماذا كان يحدث؟ قمت على أطراف أصابعي لأغادر الحجرة دون إزعاج زميلي. على باب الغرفة كانت المفاجأة. وجدت سرير زميلي الذي نقله خارج الغرفة، وساعده في ذلك أن السرير كان ذا عجلات تسهّل حركته.
وجدت الرسام مصطفى حسين جالساً فوق السرير يرسم إحدى لوحاته. قال لي إنه فضّل أن ينقل السرير خارج الغرفة حتى لا يضطر إلى إضاءة الأنوار وإزعاجي! كم كان رقيقاً مهذباً.
رمش عين محرم فؤاد!
كان المطرب محرم فؤاد أحد نجوم الأغنية في مصر، وكانت له أغنية شهيرة، تقول: (رمش عيني اللي دبحني، رمش عينه). كان محرم فؤاد يستعد للصعود، ليؤدي أغنيته على خشبة مسرح جامعة القاهرة، الذي يتسع لآلاف الحضور.
فوجئ محرم فؤاد بأن الكورس الذي سيردد الأغنية وراءه غير موجود. لم يستطع الدخول إلى المسرح. راح يبحث عن أي أشخاص يرددون الأغنية خلفه.
في هذه اللحظة كنت أنا وصديقي عبد الوهاب مطاوع الذي كان في بدايات عمله بجريدة الأهرام، نقف في كواليس المسرح، لأننا لم نجد مقاعد للجلوس في الصالة. فوجئنا بمحرم فؤاد يكاد يتوسل إلينا أن نردد وراءه كلمات الأغنية. وافقنا إنقاذاً للموقف.
بدأ يغني، وقمنا بترديد الكلمات وراءه. فوجئنا به يشير إلينا بأن نتوقف، واستمر هو في الغناء وحده عرفنا منه أن صوتنا أجش لا يصلح للغناء!
للذكريات بقية. موعدنا العدد القادم بإذن الله.