التعرض المستمر للمآسي: مخاطر “الصدمة الثانوية” في عصر السوشيال ميديا
في عالم اليوم، أصبحت وسائل التواصل الاجتماعي نافذتنا على ما يحدث في كل ركن من أركان الكرة الأرضية. في حين أن هذا الاتصال يمنحنا وعيًا غير مسبوق، إلا أنه يُعرضنا أيضًا لفيض من الصور ومقاطع الفيديو المؤلمة التي توثق الأحداث المأساوية، مثل الكوارث الطبيعية، الحروب، الحوادث المروعة، وأعمال العنف. هذا التعرض المستمر والمباشر للمحتوى المؤلم يُعرّضنا لخطر الإصابة بما يُعرف بـ “الصدمة النفسية الثانوية” أو “صدمة الوكيل” (Vicarious Trauma / Secondary Traumatic Stress).
بشكل أساسي، تحدث الصدمة الثانوية عندما يتأثر الفرد نفسيًا بشكل عميق نتيجة التعرض المتكرر لتجارب الآخرين المؤلمة، حتى لو لم يكن هو الضحية المباشرة. يُمكن أن تُسبب وسائل التواصل الاجتماعي هذه الصدمة بشكل خاص بسبب طبيعتها التي تُقدم المحتوى بدون حواجز، مما يُلغي المسافة العاطفية التي كانت تُوفرها وسائل الإعلام التقليدية.
كيف تُسبب وسائل التواصل الاجتماعي الصدمة الثانوية؟
- المحتوى الرسومي المباشر: بعيدًا عن التقارير الإخبارية التقليدية التي غالبًا ما تُلطف من المحتوى، تُعرض منصات التواصل الاجتماعي مقاطع فيديو وصورًا حية ومرعبة للأحداث. هذه المشاهد تُثير استجابة قوية في الدماغ، وتُحفز نظام الاستجابة للتوتر (Fight-or-flight)، مما يُسبب شعورًا بالرعب والعجز.
- التكرار والمواجهة المستمرة: بفضل الخوارزميات، قد تجد نفسك تشاهد نفس المقطع المؤلم مرارًا وتكرارًا في خلاصتك الإخبارية (Feed)، أو قد يُعاد مشاركته من قبل أصدقائك. هذا التكرار يُعزز من تأثير الصدمة ويُصعّب على العقل معالجة التجربة المؤلمة بشكل صحي.
- الشعور بالعجز واليأس: عندما تشاهد مأساة تحدث في مكان آخر، قد تشعر بالعجز وعدم القدرة على فعل أي شيء لمساعدة الضحايا. هذا الشعور باليأس يُمكن أن يُؤدي إلى الإحباط، الاكتئاب، والقلق المستمر، خاصةً إذا كنت شخصًا شديد التعاطف.
- الضبابية بين الواقع والعالم الافتراضي: تُصبح الخطوط الفاصلة بين الحياة الواقعية والعالم الافتراضي غير واضحة. قد تجد نفسك تبحث عن المزيد من الأخبار المؤلمة (Doomscrolling)، أو تشعر أن التهديدات الموجودة في مقاطع الفيديو قريبة منك بشكل شخصي، مما يُعزز من القلق والخوف.
علامات التحذير من الإصابة بالصدمة الثانوية
إذا كنت تقضي وقتًا طويلًا في متابعة المحتوى المأساوي على وسائل التواصل الاجتماعي، فقد تظهر عليك بعض هذه العلامات:
- القلق والتوتر المستمر: الشعور بعدم الارتياح والقلق دون سبب واضح.
- صعوبة في النوم أو الكوابيس: قد تُلاحقك الصور والمشاهد المؤلمة في أحلامك.
- مشاعر اليأس أو الإحباط: الشعور بأن العالم مكان مظلم ومخيف.
- الانسحاب الاجتماعي: الرغبة في الابتعاد عن الأصدقاء والعائلة.
- فقدان الاهتمام: عدم الاستمتاع بالأنشطة التي كنت تستمتع بها في السابق.
- تغيرات في المزاج: الشعور بالغضب، أو الحزن، أو التنميل العاطفي (Emotional numbness).
كيف تحمي نفسك من الصدمة الثانوية؟
لحسن الحظ، يمكنك اتخاذ خطوات استباقية لحماية صحتك العقلية في عصر التواصل الرقمي:
- ضع حدودًا: خصص وقتًا محددًا لتصفح وسائل التواصل الاجتماعي وتجنب تصفحها قبل النوم مباشرة.
- نظّم خلاصتك الإخبارية: قم بإلغاء متابعة الحسابات التي تنشر محتوى صادمًا بشكل مستمر. ابحث عن مصادر أخبار موثوقة لا تُركز على الصور الرسومية.
- ممارسة الوعي الذاتي (Self-Awareness): انتبه إلى مشاعرك أثناء تصفح المحتوى. إذا شعرت بالقلق أو الضيق، أغلق التطبيق على الفور.
- مارس أنشطة تُساعد على الاسترخاء: خصص وقتًا لأنشطة تُقلل التوتر، مثل التأمل، اليوجا، القراءة، أو قضاء الوقت في الطبيعة.
- التحدث مع الآخرين: لا تُحتفظ بمشاعرك لنفسك. تحدث مع الأصدقاء أو العائلة أو معالج نفسي حول ما تشعر به.
- تذكر “إنسانيتك”: استخدم وعيك لتُقدم المساعدة إذا أمكن، سواء عبر التبرع أو التطوع. هذا يُمكن أن يُقلل من الشعور بالعجز.
الخلاصة: بينما تُمكننا وسائل التواصل الاجتماعي من التعاطف مع الآخرين، يجب أن نُدرك أن هناك ثمنًا صحيًا لهذا التعرض. إن الصدمة الثانوية ليست مجرد “شعور بالحزن”، بل هي حالة نفسية حقيقية تستحق الانتباه. من خلال وضع حدود واعية وتطبيق استراتيجيات الحماية، يمكننا الاستفادة من الجانب الإيجابي للتواصل الرقمي دون أن نقع فريسة لمخاطره الخفية.














