تأثير الميكروبات الدقيقة في الأمعاء على الصحة العقلية هل تُغير بكتيريا الأمعاء مزاجنا وسلوكنا؟

الصحة والجمال

استمع الي المقالة
0:00

في ثورة علمية تُعيد تعريف فهمنا للصحة، يُبرز البحث الحديث الدور المذهل الذي تلعبه الميكروبات الدقيقة (Microbes) التي تعيش في أمعائنا، والمعروفة باسم الميكروبيوم المعوي (Gut Microbiome)، في التأثير على الصحة العقلية. لم يعد يُنظر إلى الأمعاء على أنها مجرد عضو للهضم، بل أصبحت تُلقب بـ”الدماغ الثاني” لما لها من تأثير عميق على المزاج والسلوك، من خلال محور معقد يُعرف باسم محور الأمعاء-الدماغ (Gut-Brain Axis). هذا الاكتشاف يُثير تساؤلات حاسمة: هل تُغير بكتيريا الأمعاء مزاجنا وسلوكنا حقًا؟ وهل يمكننا استهدافها لتحسين الصحة النفسية؟

لطالما كان يُعتقد أن الأمراض العقلية تنشأ بشكل أساسي في الدماغ. أما الآن، فتُشير الأدلة المتزايدة إلى أن التوازن أو الاختلال في الميكروبيوم المعوي يُمكن أن يُساهم بشكل كبير في حالات مثل الاكتئاب، القلق، وحتى بعض الاضطرابات العصبية. هذا الفهم الجديد يُقدم مسارات واعدة للتدخلات العلاجية التي قد تتجاوز الأدوية التقليدية، مُركزًا على نهج شمولي للصحة يربط بين الجسد والعقل.

هل تُغير بكتيريا الأمعاء مزاجنا وسلوكنا؟

1. محور الأمعاء-الدماغ: قناة التواصل:

  • الاتصال العصبي: تُربط الأمعاء بالدماغ عبر العصب المبهم (Vagus Nerve)، وهو مسار عصبي رئيسي يُرسل إشارات ثنائية الاتجاه بين الجهاز الهضمي والجهاز العصبي المركزي.
  • إنتاج النواقل العصبية: تُنتج الميكروبات المعوية العديد من النواقل العصبية (Neurotransmitters) التي تُؤثر على المزاج، مثل السيروتونين (Serotonin)، الذي يُعرف بهرمون السعادة. في الواقع، يُنتج جزء كبير من السيروتونين في الأمعاء. كما تُنتج مركبات أخرى مثل الدوبامين وحمض الغاما-أمينوبوتيريك (GABA).
  • المُركبات الكيميائية: تُنتج بكتيريا الأمعاء مواد كيميائية مثل الأحماض الدهنية قصيرة السلسلة (Short-Chain Fatty Acids – SCFAs)، والتي تُؤثر على وظائف الدماغ، تُقلل الالتهاب، وتُعزز صحة الحاجز المعوي.

2. تأثير الميكروبيوم على حالات الصحة العقلية:

  • الاكتئاب والقلق: تُشير الأبحاث إلى أن الأشخاص الذين يُعانون من الاكتئاب والقلق غالبًا ما يُظهرون اختلافًا في تنوع وتكوين الميكروبيوم المعوي مقارنة بالأشخاص الأصحاء. وقد تُساهم بعض أنواع البكتيريا في زيادة الاستجابات الالتهابية التي تُؤثر على الدماغ.
  • التوتر: يُمكن أن يُؤدي التوتر المزمن إلى تغييرات في الميكروبيوم المعوي، والتي بدورها تُفاقم من استجابة الجسم للتوتر وتُؤثر على المزاج.
  • اضطرابات النمو العصبي: تُظهر بعض الدراسات الأولية روابط محتملة بين الميكروبيوم المعوي وحالات مثل التوحد، مع التركيز على أنماط معينة من البكتيريا أو الالتهاب المعوي.

3. كيفية تأثير الميكروبيوم على الدماغ:

  • الالتهاب: يُمكن أن تُؤدي الاختلالات في الميكروبيوم إلى التهاب مزمن في الأمعاء، والذي يُمكن أن ينتقل إلى الدماغ ويُساهم في الاضطرابات النفسية.
  • سلامة الحاجز المعوي: تُحافظ الميكروبات الصحية على سلامة الحاجز المعوي، مما يمنع تسرب السموم والمُركبات الضارة إلى مجرى الدم ومنه إلى الدماغ.
  • إنتاج الفيتامينات: تُنتج بعض بكتيريا الأمعاء فيتامينات ضرورية لوظيفة الدماغ مثل فيتامينات B وK.

4. طرق تحسين الميكروبيوم المعوي لدعم الصحة العقلية:

  • الأطعمة الغنية بالبروبيوتيك (Probiotics): تناول الأطعمة المخمرة مثل الزبادي، الكفير، المخللات الطبيعية (دون خل)، والكمبوتشا يُمكن أن يُساهم في زيادة البكتيريا النافعة.
  • الأطعمة الغنية بالبريبايوتيك (Prebiotics): تُعد البريبايوتيك أليافاً غذائية لا تُهضم، تُغذي البكتيريا النافعة في الأمعاء. تُوجد في الأطعمة مثل الثوم، البصل، الموز الأخضر، والشوفان.
  • نظام غذائي متوازن وغني بالألياف: الإكثار من الفواكه والخضروات والحبوب الكاملة يُوفر تنوعاً غذائياً يُدعم ميكروبيوم صحي.
  • تقليل السكر والأطعمة المصنعة: تُساهم هذه الأطعمة في تغذية البكتيريا الضارة وتُؤدي إلى اختلال التوازن.
  • تقليل التوتر: إدارة التوتر من خلال اليوغا، التأمل، أو التنفس العميق يُمكن أن يُحسن من صحة الأمعاء.
  • النشاط البدني: تُشير الأبحاث إلى أن التمارين الرياضية تُمكن أن تُؤثر إيجاباً على تنوع الميكروبيوم.
  • النوم الكافي: الحصول على قسط كافٍ من النوم ضروري للحفاظ على توازن الميكروبيوم.

في الختام، تُقدم العلاقة بين الأمعاء والدماغ نافذة واعدة على طرق جديدة لتحسين الصحة العقلية. فبدلاً من التركيز على الدماغ فقط، يُمكننا الآن استكشاف دور بكتيريا الأمعاء كهدف علاجي محتمل للاكتئاب، القلق، وغيرها من الاضطرابات. إن العناية بالميكروبيوم المعوي من خلال نظام غذائي صحي ونمط حياة متوازن ليست مجرد صيحة، بل هي استثمار في صحتنا العقلية الشاملة.