مذكرات «علي بابا»
المقصود بـ(علي بابا) هنا، مقهى شهير في ميدان التحرير، كان قبلة المثقفين في الستينيات، وفي مقدمتهم الأديب العالمي الحاصل على جائزة نوبل نجيب محفوظ. كان يتردد على المقهى كثيراً في وقت مبكر، ويسعد بلقاء أصدقائه.
لم يسعدني الحظ بلقاء نجيب محفوظ، لكني كنت من روّاد المقهى الدائمين، بصحبة صديق العمر، أيقونة الصحافة ونجمها عبد الوهاب مطاوع، الذي لقي وجه ربه الكريم منذ سبعة عشر عاماً. كنا نحرص على ارتياد المقهى بعد انتهاء أعمالنا، وغالباً كنا نستمر هناك حتى الفجر. وننام بعدها لنلحق بأعمالنا في الصباح.
ذات يوم، أخرج عبد الوهاب مطاوع أوراقاً وقلماً، وقال: ما رأيك أن ننتهز الفرصة وندوّن على الورق آراءنا في كل شيء. السياسة، الحب، الأصدقاء، المستقبل، وكل ما يخطر على البال. دار الحوار الذي سجّله عبد الوهاب مطاوع على الورق أكثر من ساعتين، وسجّل كل منا رأيه بصراحة.
كانت وجهة النظر أننا نسجّل آراءنا في هذه المرحلة، ونحن في بداية مشوارنا في عالم الصحافة. كانت الآراء صريحة وجريئة إلى أقصى حد، وشملت مجموعة من الزملاء أصبحوا خلال سنوات قليلة نجوماً في عالم الإعلام.
غادرنا المقهى، وحملت أنا هذه الأوراق، واحتفظت بها. نسينا الأمر تماماً، واختفت هذه الأوراق، ولم أعد أذكرها. بعد حوالي 15 عاماً كنت أقلّب في أوراقي القديمة، عثرت على هذه المذكرات، أعدت قراءتها، بدت الآراء جريئة، إضافة إلى الاستفاضة في الحديث عن تجارب الحب التي عاشها الزملاء الذين تحدثنا عنهم.
قرأت المذكرات أكثر من مرة، ولم أتردد في اتخاذ قرار تمزيقها. إنها تحمل أسرار زملاء أصبحوا نجوماً. خشيت أن أتركها ويعثر عليها آخرون، فيجدونها مادة مثيرة للنشر.
مكالمات هاتفية من مكتب الوزير
قبل تحويل مجرى نهر النيل، وبدء تشغيل السد العالي، أمضيت شهراً كاملاً في أسوان، أكتب كل يوم مقالاً عن تطور العمل في السد، الذي يعمل به ليلاً ونهاراً عشرات الآلاف من العمال والمهندسين. لم أجد صعوبة في اختيار الأفكار التي أكتب عنها. المشروع كان ملحمة تاريخية يذكرها الشعب المصري.
المشكلة كانت في إرسال المقال لجريدة الأخبار يومياً.
لم يكن أمامي سوى الهاتف، الذي كان يمثل عذاباً لكل من يستخدمه. الحصول على مكالمة من أسوان إلى القاهرة كان يحتاج إلى ترتيبات وحجز. وحين تحظى بمكالمة فإن الصوت لا يكاد يسمع ويقطع أكثر من مرة.
كانت تتلقى مكالماتي في القاهرة الزميلة الفاضلة فاطمة صقر، تجلس في صالة التحرير، التي يعمل بها أكثر من 40 صحفياً، ولأنها لا تسمعني بوضوح كانت ترفع صوتها في سماعة الهاتف، وهي تردد: آلو.. آلو.. مش سامعة يا عمر. ترددها خلال المكالمة الواحدة عشرات المرات.
ظل الحال على هذا المنوال، إلى أن جاءني الحل من مدير العلاقات العامة في السد العالي في ذلك الوقت، بعد الحصول على موافقة المهندس صدقي سليمان وزير السد العالي، سمح لي باستخدام الهاتف الشخصي للوزير لإملاء المقال اليومي.
اجتماع الجمعة وذكريات أخرى
ذكرياتي عن السنوات التي أمضيتها في (أخبار اليوم) كثيرة، ومتنوعة. ألتقط منها جانباً يعطي الضوء على أسلوب العمل في أخبار اليوم، الذي كان متحرراً، بعكس صحف أخرى لها تقاليد موروثة لا تحيد عنها، منها ضرورة ارتداء الصحفي بدلة كاملة ورباط عنق حتى أثناء شهور الصيف شديدة الحرارة.
ولعل الصحفي العملاق مصطفى أمين يحتل المرتبة الأولى في قائمة الذكريات، لأنه كان يتمتع بشخصية جذابة، إضافة إلى ذكاء حاد. كان يتعامل مع الجميع سواسية.
بعد لقائه تشعر بأن أبواب المستقبل قد فتحت على مصراعيها أمامك.
أذكر جيداً الاجتماع الأسبوعي كل يوم جمعة. لم يكن حضوره ملزماً للصحفيين، ومع ذلك كان الجميع يحرص على حضوره. في هذا الاجتماع كان مصطفى أمين يقدم عرضاً للعمل الذي أنجز خلال الأسبوع، وما تحقق من نجاح أو إخفاق.
ولا يخلو اجتماع من دروس في الصحافة التي أحدث فيها تغيرات ملموسة.
رأيت مصطفى أمين يقود العمل في المؤسسة، ورأيته يؤيد قرار نقل ملكيه (أخبار اليوم) إلى الاتحاد الاشتراكي، ورأيته وهو يترك (أخبار اليوم)، في كل هذه المناسبات كان شامخاً وباسماً.
لم يكن مصطفى أمين وحده النجم في (أخبار اليوم). كان هناك نجوم آخرون. منهم مثلاً لطفي حسونة. كان محامياً بارعاً، لكنه عشق الصحافة وعمل في (أخبار اليوم) كنائب لرئيس التحرير. كنت أحرص على البقاء بالقرب منه في صالة التحرير، لأن كل تصرف يقوم به هو درس من دروس الصحافة.
أثناء إلقاء الزعيم جمال عبد الناصر خطاباته التي كانت تمتد طويلاً، وتنشر كاملة في الصحف، كانت تسجّل وتفرّغ ثم تقدّم للنشر. وهذا يؤخر إصدار الصحيفة. لكن لطفي حسونة لم يكن ينتظر تسجيل الخطابات.
كان يكتبها بيده أثناء إلقائها. وأثناء تصفيق الجمهور للرئيس، كان يضع العناوين، ويبعث بما كتب إلى المطبعة، وبعد انتهاء الخطاب بدقائق يكون قد كتب المانشيتات.
أذكر يوماً أنني أعددت تحقيقاً عن شركة قطاع عام، لديها مخزون كبير من إنتاجها من الجبن، طلبت منه أن يختار لي عنواناً للتحقيق. اختار عنواناً ذكيا لا زلت أتذكّره حتى الآن، كتب (مئة طن جبن لا تجد من يأكلها).
الذكريات متعددة. أذكر منها الكاتب القدير محمد زكي عبد القادر. كان يكتب مقاله اليومي على ورقه بحجم علبة السجائر وبخط دقيق. كان عامل الصف يحتاج لمن يقرأ الكلمات، لكي يحولها إلى رصاص تمهيداً لصفها.
كنت أتولى هذه المهمة في بعض الأحيان، وأكون سعيداً، لأني أول قارئ لمقال الكاتب الكبير.
الذكريات ما زال لها بقية. موعدنا العدد القادم بإذن الله.