فن التخطيط: كيف تصقل لعبة الشطرنج الوظائف التنفيذية والتحمل العقلي؟
إلى جانب الذاكرة، تُعد لعبة الشطرنج مختبراً حقيقياً لتنمية الوظائف التنفيذية (Executive Functions)، وهي مجموعة من المهارات المعرفية العليا التي تنظم وتتحكم في السلوك. يُجبر اللاعب، وخاصة المتفوق، على اتخاذ قرارات تحت الضغط وفي ظل معلومات غير كاملة (لأنه لا يستطيع رؤية ما يفكر فيه الخصم)، مما يطور قدرته على التخطيط الاستراتيجي، والتثبيط المعرفي، والتحمل العقلي.
1. التخطيط المستقبلي وعمق التفكير: يُعرّف الشطرنج بأنه لعبة التخطيط الاستراتيجي. يجب على اللاعب أن يكون قادراً على صياغة خطط طويلة المدى (كيف سيهاجم الجناح، أو كيف سيسيطر على المركز)، ثم تقسيم هذه الخطط إلى تكتيكات قصيرة المدى (سلاسل نقلات). تتطلب هذه العملية التفكير المستقبلي، حيث لا يتم تقييم النقلة بناءً على ربحها المباشر فقط، بل بناءً على تأثيرها على الـ 10 أو 15 نقلة التالية. اللاعب المتفوق لا يرى نقلة واحدة جيدة، بل يرى تتابعاً من النقلات الجيدة التي تقوده إلى الفوز، وهو ما يعزز قدرة الدماغ على معالجة المعلومات المعقدة زمنياً.
2. التثبيط المعرفي وإدارة المخاطر: تتطلب لعبة الشطرنج مستوى عالياً من التثبيط المعرفي (Cognitive Inhibition)، وهو القدرة على كبت أو تجاهل النقلات التي تبدو مغرية ظاهرياً ولكنها تحمل مخاطر خفية أو لا تخدم الخطة العامة. يتعلم اللاعب قمع الرغبة في “أكل” قطعة الخصم إذا كان ذلك سيؤدي إلى وضع دفاعي ضعيف لاحقاً. هذه المهارة تُترجم إلى مهارة حياتية في اتخاذ القرارات بعيدة المدى وتجنب الاندفاع.
3. الإدراك المكاني والتحمل العقلي: تتطلب المهارة في الشطرنج قدرة قوية على الإدراك البصري والمكاني، حيث يتخيل اللاعب حركة القطع في الفراغ وتأثيرها على الأوضاع المستقبلية. أما على مستوى التحمل، فإن المنافسات الرسمية تستمر لساعات طويلة، مما يضع ضغطاً هائلاً على التركيز. يصبح التفوق في هذه اللعبة مقياساً لقدرة الفرد على التحمل العقلي والحفاظ على جودة اتخاذ القرار تحت الإجهاد والإرهاق الذهني.
باختصار، يمكن القول إن لعبة الشطرنج هي ممارسة عملية على أعلى مستوى لتحسين المرونة المعرفية ومهارات حل المشكلات، حيث تُجبر الدماغ على العمل بكامل طاقته التخطيطية والتحليلية، مما يثري الأداء الإدراكي للمتفوقين فيها.














