قصة الأخوين هيريك ونشأة زرع الأعضاء الناجح
يُعد تاريخ الطب مليئًا باللحظات الفارقة، ولكن القليل منها يضاهي أهمية اللحظة التي شهدت إجراء أول عملية زرع كلية ناجحة ودائمة بين توأمين متطابقين. هذه القصة، التي تُوجت لاحقًا بحصول الطبيب الرئيسي على جائزة نوبل، لم تكن مجرد إنجاز جراحي، بل فتحت الباب أمام عصر جديد بالكامل في علاج الأمراض المستعصية: عصر زرع الأعضاء.
المأساة التي قادت إلى الإنجاز
تدور القصة حول شقيقين أمريكيين توأمين متطابقين، ريتشارد هيريك (Richard Herrick) وشقيقه رونالد هيريك (Ronald Herrick). في عام 1954، كان ريتشارد البالغ من العمر 23 عامًا يعاني من التهاب كلى مزمن (Glomerulonephritis) لا رجعة فيه، وقد وصل إلى المرحلة النهائية من الفشل الكلوي. في ذلك الوقت، كان التشخيص يعني حكماً بالإعدام، حيث لم تكن تقنيات الغسيل الكلوي (Dialysis) واسعة الانتشار ومتاحة بشكل دائم.
كانت عمليات زرع الأعضاء قد جُربت بالفعل، لكنها كانت تفشل دائمًا بسبب رفض الجهاز المناعي للمريض للعضو المزروع باعتباره جسمًا غريبًا. العضو المُتبرع به من شخص آخر كان يُهاجم ويُدمر خلال أيام قليلة. وهنا ظهر الأمل الوحيد: التوأم المتطابق.
العملية التاريخية وفك شفرة المناعة
أُجريت العملية التاريخية في مستشفى بيتر بنت بريغهام (Peter Bent Brigham Hospital) في بوسطن، ماساتشوستس، في 23 ديسمبر 1954. كان يقود الفريق الجراحي الجراح اللامع الدكتور جوزيف إي. موراي (Dr. Joseph E. Murray).
الميزة الحاسمة: عرف الدكتور موراي وفريقه أن التوأمين المتطابقين يمتلكان نفس التركيب الجيني تمامًا. هذا يعني أن جهاز ريتشارد المناعي لن يستطيع التمييز بين كلية رونالد المزروعة وأنسجته الخاصة. لقد كانت المرة الأولى التي يتم فيها تجاوز عقبة الرفض المناعي دون الحاجة إلى أدوية قوية مثبطة للمناعة، والتي لم تكن متوفرة بفعالية في ذلك الوقت.
نجحت العملية، وتمكن ريتشارد من العيش مع الكلية الجديدة لمدة ثماني سنوات إضافية، قبل أن يتوفى لأسباب مرتبطة بالمرض الأصلي. لكن نجاح الكلية في العمل بشكل دائم لأول مرة أثبت للعالم أن زرع الأعضاء البشري ممكن، ومثّل الدليل القاطع على أن الرفض المناعي هو الحاجز الوحيد الذي يجب التغلب عليه. لقد كانت هذه هي الشرارة التي حفزت الأبحاث المكثفة لتطوير أدوية كبت المناعة، مما جعل عمليات الزرع ممكنة بين أي شخصين غير متطابقين جينياً.














