سامي شرف شاهد إثبات على «شنبو في المصيدة»!
من المهم أن نستعيد بين الحين والآخر قراءة التاريخ، ولدينا أمناء على هذا التاريخ، ولا يتحدثون إلا ولديهم وثيقة، وكان الراحل سامي شرف، الذي غادرنا قبل أسابيع، بعد أن اقترب من عامه المئوي، بمثابة أرشيف متحرك للرئيس الراحل جمال عبدالناصر، وبين الحين والآخر، كنا نتواصل تليفونيًا، أحيانًا يسألني عن اسم ممثل شاهد له عملًا فنيًا، أو مطرب أو ملحن، وكنت أنا على الجانب الآخر أستعيد معه بعضًا ما أكتشفه من معلومات متعلقة بالرئيس الراحل جمال عبدالناصر، كان هو شاهد إثبات عليها باعتباره مدير مكتبه وكاتم الكثير من أسراره، وسألته عن تلك الواقعة فأكد حدوثها.
وأنا أستعيد قراءة أرشيف الفنان الكبير فؤاد المهندس، وجدت أن الرئيس عبدالناصر بعد هزيمة 5 يونيو 67، التي أطلقنا عليها على سبيل تخفيف الوطأة «نكسة»، كان يراهن على الفن، وسبق أن أشارت د. درية شرف الدين في رسالة الدكتوراه عن السينما والسياسة، إلى أن الرئيس منح الضوء الأخضر لزيادة هامش الانتقاد، وهو ما صب في صالح تماسك الجبهة الداخلية.
وكان الهدف أن يصبح وجدان الشعب حائط الصد الأول، لإيقاف سطوة وسيطرة سلاح الجو الإسرائيلي على السماء المصرية، واكتشف عبدالناصر أن من بين الأسلحة، الضحك والسخرية، لأنهما الطريق السحري والمضمون للوصول إلى شاطئ الأمان، كان الرئيس غاضبًا من «النكت» التي ملأت الشارع ضد قواته المسلحة، وهو ما أشار إليه فيلم «الممر»، وفي الوقت نفسه كان يرى أن للكوميديا دورًا حيويًا لهزيمة الهزيمة.
فؤاد المهندس قال، في مذكراته، إن المسلسل تم بناء على اقتراح من جمال عبدالناصر، والمؤكد حتى لا يذهب خيال البعض إلى أبعد مما هو مطلوب، أن جمال لم يمارس الكتابة إلا فقط في نصف رواية «في سبيل الحرية»، كتبها وهو طالب في المدرسة الثانوية، متأثرًا بـ«عودة الروح» لتوفيق الحكيم.
وطلب عبدالناصر من الإعلام ألا يظل متجهمًا وحزينًا، وأن يبعث روح الطمأنينة في نفوس المواطنين، فقرروا اختيار توقيت الذروة، وهو شهر رمضان، وتم تكليف الساخر الكبير أحمد رجب للكتابة، وتحمس للتنفيذ نجم الكوميديا الأول في ذلك الزمن فؤاد المهندس مع توأمه شويكار، وكان يوسف وهبي داعمًا لهذا المسلسل بوجوده كبطل مشارك.
المستمعون ربما يتذكرون التتر الموسيقي الذي هو بمثابة رؤية عبثية أحالت أغنية وطنية شهيرة يقول مطلعها «بلدي يا بلدي/ بلد الأحرار يا بلدي»، لتصبح «شنبو يا شنبو/ والله ووقعت يا شنبو»، وأشرف الموسيقار كمال الطويل صاحب اللحن الأصلي على التنفيذ، ولم يعتبرها أحد سخرية من نشيد وطني يتغنى بأمجادنا.
الشعوب القوية تملك القدرة على السخرية حتى في عز الانكسار، وهذا دليل ملموس على تعافيها من سطوة الإحباط.
نجوم الكوميديا يلعبون أدوارًا لصالح الوطن في معاركه المصيرية، كثيرًا ما يحدث التلاقي بين ما تريده السلطة السياسية، وما يرنو إليه الشعب، وتجد ذلك واضحًا في تلك السلسلة من الأفلام التي لعب بطولتها عادل إمام، وكتبها وحيد حامد، وأخرجها شريف عرفة، مثل «اللعب مع الكبار»، و«الإرهاب والكباب»، و«طيور الظلام»، وغيرها.. كان الهدف الجماهيري والرسمي في التسعينيات هو مواجهة التطرف الذي يتدثر عنوة بالدين، ضمير الفنان يدفعه لقراءة صحيحة للواقع.
لو عدت مثلًا لمطلع ثورة يوليو 52، ستكتشف أن الجمهورية الوليدة توجهت إلى إسماعيل ياسين للمساهمة في تحقيق واحد من أهم المبادئ الستة للثورة، وهو إقامة جيش وطني قوي، فقدم سُمعة منذ منتصف الخمسينيات أفلامًا بدأت بـ«إسماعيل ياسين في الجيش»، وتتابعت الأسلحة مثل «الطيران» و«الأسطول» و«الشرطة العسكرية» من خلال فيلم «مسجل خطر»، وأغلبها إخراج الضابط السابق الذي تفرغ للسينما الكوميدية، فطين عبدالوهاب، لأنه أدرى بالتفاصيل العسكرية.
في حياة الفنانين لمحات تستطيع من خلالها قراءة الزمن بكل أبعاده، «كلما اتسعت الرؤية ضاقت العبارة»، كما قال النفري، وهكذا من كلمة عابرة لفؤاد المهندس، ترسم ملامح زمن وكفاح وطن، ومن «شنبو» نرى كيف كانت الدولة تجيد استخدام قواها الناعمة لحماية وجدان الشعب، وكانت تلك رواية موثقة أكدها الراحل الكبير سامي شرف!