ربُ العزة.. سبحانه

مقالات

استمع الي المقالة
0:00

ربُ العزة.. سبحانه

بقلم: أ. د. عمرو بسطويسي

الإنسان مخلوقٌ تفاعلي، ولا تخلو حياته من علاقات تنشأ بينه وبين أقرانه من البشر، وهي علاقات تختلف فى أشكالها ودرجاتها ولا غنى عنها، وهي جزء لا يتجزأ من هذه الحياة.

ولكن تظل هناك العلاقة الأهم والأعظم التي قد ينساها أو يتناساها البعض وهي العلاقة بين الإنسان وخالقه. ولعل بعضنا يتذكر جيدًا ولعل البعض الآخر يصعب عليه أن يتذكر كيف بدأت علاقته أول مرة مع الخالق جلَّ فى عُلاه. وبعضنا قد يتذكر كيف كان صوت الأذان ينساب إلى مسامعه عندما كان صغيرًا وكيف كان قلبه يخفق إليه ويخشع به دون أن يدرك ماهيته وما وراءَه. ومنا مَن كانت الترانيم الدينية تلمس شغاف قلبه فى مناسبات الكنيسة الدينية.

ولعل البعض الآخر يتذكر كيف كان يسأل أمه أو أبيه عن الله سبحانه وتعالى، مَن هو؟ وأين يجده؟ وكيف يبدو؟ إلى غير ذلك من الأسئلة الكونية التي دارت فى عقول معظمنا فى الصغر، وبلا شك أنها استمرت معنا فى الكبر حتى أصابتنا الشيخوخة.

ويظل ذلك الغموض حول ذات الخالق علامة من علامات الألوهية، وكما قال الشيخ الشعراوى رحمه الله؛ «كيف للإله أن يكون إلهًا وأنت أيها العبد تعرف عنه كل شيء ويكفيك أنه منحك مفتاحًا لوصف ذاته بأنه (نور السماوات والأرض)، وذلك فى مطلع الآية الخامسة والثلاثين من سورة النور. ولأننا لا نرى النور ولكن نرى انعكاسه فقط، فأنك إذا أردت أن ترى اللهُ فانظر إلى كل ما ينعكس عليه النور مما خلق فى السماوات والأرض لتدرك وجوده وترى الله فيما خلقه الله».

والعلاقة بين العبد وربه هي علاقة ممتدة مُنذ نشأتنا حتى مماتنا، قد يضعها بعضنا نصب عينيه ما دامت الروح فيه ويعمل على تعزيزها وتعميقها، ومنا مَن لا يتذكر علاقته بخالقه إلا لسويعات قليلة فى المآتم أو عند دفن قريبٍ أو صاحب، ثم ينساها أو يتناساها ليتمكن من المضى فى حياته طبقًا لقوانينه الخاصة، وبعيدًا عن حدود الدين، فيفعل ما يريد دون تأنيبٍ للضمير.

والمُدرك للتاريخ البشرى يرى بسهولة كيف كانت- ولا تزال- أغلب معتركات الحياة وحروب البشر قد دارت حول الاختلاف البشري على الذات الإلهية، فتذكر صفحات التاريخ تلك الحروب بين الوثنيين فى شمال أوروبا وبين المسيحيين من الإنجليز والفرنسيين، وكذلك تلك المعارك بين المسلمين الأوائل الذين آمنوا بالله الواحد الأحد واتبعوا خاتم النبيين والرسل سيدنا محمد- صلوات الله وسلامه عليه- وبين عبدة الأصنام من القبائل العربية فى زمن الجاهلية ما قبل الإسلام.

والكل يعلم ويدرك أن هناك من البشر من انحرف عقله ليعبد البقر ويقدسه أو من يعبد آلهةً من الخيال مثل بوذا، ومن يعبد الشيطان وغير ذلك كثير، وهناك أيضًا اللا دينيون الذين لا يعبدون شيئًا!
حتى أصحاب الديانة الواحدة تفرقوا فى شيعٍ وملل، فهنالك الشيعة والسنة من المسلمين وهنالك الأرثوذكس والبروتستانت من المسيحيين، وهنالك من اليهود عدة طوائف منها اليهودية الحريدية والأرثوذكسية الحديثة والمحافظة والإصلاحية.

وهكذا فنحن نرى تفاعلات البشر وموجات الحياة تدور فى معظمها وأغلبها حول كينونة الإله ومفاهيم الدين.

ولا يخفى على القارئ أن تصنيفات البشر عدة منها ما بُني على العرق والجنس واللون واللغة والموقع الجغرافي والحالة الاقتصادية والثقافية والتراثية، ولكن البعض قد يرى أن التصنيف الأقوى والأكثر تمييزًا هو ذلك المَبني على الدين والعقيدة، وقد اتخذت شعوبٌ كثيرة هذا التصنيف حُجةً لتصنع بها فوارق وحواجز بينها وبين الشعوب التي اختلفت فى دينها، وبَنَت على ذلك الاختلافات والخلافات.

ولكن إليكم بالآية الثالثة عشرة من سورة الحجرات فى القرآن الكريم:
«يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ» (الحجرات-13).

ومن يقرأ هذه الآية ويفقه معناها يدرك أن الاختلاف فى الخلق وتنوع البشر لهو سنةٌ من سنن الحياة وأمر من الله، وأن الله سبحانه فى علاه يضع الناس فى درجات القرب إليه بناءً على درجاتهم فى تقوى الله، وأن حكمه عليهم ليس مبنى على دينٍ بعينه ولكنه مَبني على تقواهم وطاعتهم لله.

وقد يسأل عاقلٌ نفسَه، هل لو أراد الله بقدرته وجبروته أن يخلق الناس جميعًا على دينٍ واحد، ألم تكن له القدرة على ذلك.. ولكنه لم يفعل:

«وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَن فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا ۚ أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ» (يونس-99).

إذًا فهذا التنوع الدينى والعقائدي هو أمر إلهى ورغبة ربانية لا يعلم حكمتها إلا هو. ولم يتبق لنا نحن عباد الله إلا أن نرضى بالحكمة الإلهية ونقبل بالاختلاف مع الآخر ونحترم عقيدته ونوفر جهودنا لعباداتنا وطاعتنا لله، وليكن لكل امرئٍ خَيار دينِه وخَيار ما يفعل فى دنياه، وهذا ما ندركه من قراءة سورة الكافرون:

«قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1) لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (3) وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ (4) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (5) لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (6)».

إذًا فكلٌ على دينِه وكلٌ على عقيدتِه فالناس مُسيَّرون فى كلِّ شيءٍ إلّا حق الشرك أو الإيمان فلهم الخيار فى ذلك، وعلى هذا يتم حسابهم عند الخالق، فلن يُحاسبوا على الفقر أو الغنى أو الصحةِ أو المرض أو المنصب فهم مسيرون فى هذا كله.

سبحان الله وبحمده
سبحان ربي العظيم
اللهم صلي وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه