ذكريات صحفية .. أيام .. أسود من قرن الخروب!
بقلم : أحمد عمر
مؤسس ورئيس تحرير مجلة ماجد الأسبق
يصف المصريون أيام الانكسار، والحزن، والهزيمة، بأنها أسود من قرن الخروب! ما حدث في ٥ يونيو ١٩٦٧، كان هزيمة ونكسة بكل المعاني، لكن الشعب المصري، الذي لا يقبل الانكسار، استطاع بعزيمة أن يتخطى هذه الأيام المظلمة، وأن يحقق انتصاراً عظيماً في حرب أكتوبر ١٩٧٣.
رغم مرور أكثر من ٥٠ عاماً فإنني أتذكر جيداً هذا اليوم، وكأنه حدث بالأمس. كنت أسكن قرب ميدان سليمان باشا وسط القاهرة، وبالتحديد فوق مقهى ريش الشهير. قبل التاسعة صباحاً غادرت بيتي متجهاً إلى (أخبار اليوم) في شارع الصحافة.
كانت المسافة تحتاج إلى حوالي ٢٠ دقيقة. بمجرد نزولي إلى الشارع، ولم أكن قد استمعت إلى المذياع قبل مغادرة البيت، لاحظت حركة غير عادية، واستنفاراً، وأصوات المذياع تصلني من كل مكان، حيث يتجمّع الناس لسماع الأخبار.
وقفت عند أول تجمّع لأعرف وأسمع أن الحرب نشبت مع إسرائيل، وأن عشرات الطائرات الإسرائيلية تتساقط. الكل فرح بهذه الأخبار، ويترقب الساعة التي ندخل فيها تل أبيب. أسرعت الخطى تجاه (أخبار اليوم)، لكنني كنت أقف بين حين وآخر لأعرف وأسعد بعدد الطائرات الإسرائيلية التي سقطت.
وصلت (أخبار اليوم) لأجد البعض يلتفون حول موظف الاستعلامات في الطابق الأرضي، يستمعون إلى المذياع، الذي ما زال يتحدث عن سقوط طائرات العدو، وتقدم قواتنا على الجبهة.
أسرعت بصعود الدرج لأصل إلى صالة التحرير في الطابق الأول. بمجرد دخولي لاحظت حالة من الاكتئاب والحزن تسود بين المحررين، مما أثار دهشتي. المفروض أنهم سعداء بما نحققه من انتصارات.
توجهت إلى الأستاذ مصطفى غنيم، رئيس قسم الترجمة، الذي يتابع الأخبار العالمية، دقيقة بدقيقة عن طريق أجهزة التكرز، فوجئت به حزيناً مهموماً، وهو ينقل آخر وأدق الأخبار. الحرب حُسمت بتدمير عدد كبير من طائراتنا المقاتلة، وهي على الأرض.
لا تتصوروا ماذا حدث لي، ومدى ما شعرت به من ألم، مثل الملايين في مصر والوطن العربي. هذا الإحساس الذي ولد عزيمة المقاومة، وتحقيق النصر، بعد سنوات قليلة.
محاكمة عسكرية!
من ذكرياتي التي لا تُنسي، ما حدث يوم تلقيت إخطاراً من القوات المسلحة، بأني سوف أحاكم عسكرياً، بتهمه التهرب من الخدمة العسكرية. حدد الإخطار موعد ومكان المحاكمة. كان مفاجأة لي.
مفاجأة كبرى، لأني أديت الخدمة العسكرية، بل وأمضيت بضعة أشهر إضافية مجنداً، نظراً إلى ظروف الحرب في اليمن. أتممت خدمتي العسكرية بشهادة تحمل تقدير (قدوة حسنة) أعتز بها كثيراً. من أين جاءت تهمة التهرب هذه؟! لم يكن أمامي سوى انتظار موعد المحاكمة.
في ثكنة عسكرية بضواحي القاهرة، كانت المحاكمة. مثلتُ أمام عدد من الضباط الكبار، لأستمع إلى الاتهام الموجه إليّ. بدأ أحد الضباط بإلقاء خطاب الاتهام الذي يشير إلى أن الجيش أرسل لي استدعاءً، للانضمام إلى الخدمة العسكرية، لكنني تخلّفت. وحدد بيان الاتهام العقوبة التي تنتظرني.
سألني كبير الضباط: لماذا تخلفت عن الواجب الوطني؟ قلت بثقة إن هذا لم يحدث، بل إنني تقدمت خلال هذه الفترة للتطوع في قوات الدفاع الشعبي. عرض الضابط الكبير خطاب الاستدعاء، والعنوان الذي أرسل إليه. كان العنوان خاطئاً.
بيّنت ذلك للمحكمة، وأضفت بأن الالتحاق بالخدمة العسكرية شرف لأي إنسان. وحكمت المحكمة ببراءتي.
عادل إمام.. الأب
إعجابي بالفنان المعجون بالموهبة عادل إمام يمتد لسنوات طويلة، منذ شاهدته لأول مرة على خشبة المسرح. هذا التألق الذي لازمه طوال حياته، وجعله يتربع على عرش الفن بلا منازع. نشاهد جديده وقديمه ونستمتع، ونتمنى له دوام الصحة والعافية.
لم أكن قد قابلته، رغم عملي في بداية حياتي الصحفية في باب أخبار الناس بجريدة الأخبار الذي يعطي اهتماماً بالفن والفنانين. أذكر أول مرة شاهدت عادل إمام ومعه سعيد صالح وعدد آخر من الممثلين، حين فوجئت بهم يدخلون علينا في غرفة الساونا بنادي الزمالك. كانوا يريدون مشاهدتها، رحبنا بهم، أشاعوا البهجة.
كان لي صديق محام شهير، هو سعيد سيدهم، على علاقة وثيقة بنخبة من الفنانين منهم عادل إمام، وكثيراً ما كان يلتقي بهم في شقته خلف مبنى الإذاعة. ذات مساء كنت مدعواً مع عدد من الفنانين، ومنهم عادل إمام.
أمضينا سهرة لطيفة تعرفت خلالها عليه، ووجدت فيه دماثة الخلق، وثقافة عريضة، وحباً واعتزازاً بالوطن. حين غادرنا شقة سعيد سيدهم كان المصعد معطلاً، وكان علينا أن نهبط الدرج.
ولم يكن أمامنا سوى التوقف بضع دقائق، لالتقاط الأنفاس عند كل طابق. لم نشعر بالوقت، لأن حديث عادل إمام شيق ولا تمل منه أبداً.
تحدثنا عن مجلة ماجد، التي كنت أرأس تحريرها، وتحدث هو عن تربية الأبناء، وكيف يحرص على غرس القيم في نفوسهم. روى لي قصة توضح حرصه على تربية أبنائه، وأن يعيشوا حياة بلا بذخ، وأن يعرفوا كيف يتعاملون مع الآخرين.
قال إن أحد أبنائه طلب شراء لعبة أعجبته في متجر قريب ثمنها ٤٧ جنيهاً. أعطاه ٥٠ جنيهاً لشراء اللعبة.
حين عاد الابن ومعه اللعبة التي فرح بها، سأله الأب أين الباقي؟ أعطيتك ٥٠ جنيها، واللعبة ثمنها ٤٧ جنيهاً. الباقي ثلاثة جنيهات. قال الابن إنه تركها للبائع.
رفض عادل إمام وأصر أن يعيد الابن الجنيهات الثلاثة من البائع، التي يمكن أن ينفقها في شيء مفيد، لأن البائع أخذ ثمن بضاعته بالكامل.
أضاف عادل إمام: الجنيهات الثلاثة مبلغ قليل جداً، لكني وجدتها فرصة لتعليم ابني أن يصرف نقوده فيما يستحق. عرفت فيما بعد لماذا حقق أبناء عادل إمام كل هذا النجاح.