حتى لا يختفي عصر الجنتلمان والهانم
من أوراقي الخاصة : دكتور منى رجب
لقد شهدت وعايشت في سنوات صغري سلوكيات الهوانم وأناقتهن وذوقهن، ورأيت في صالون بيتنا هوانم مصر في كامل أناقتهن وأساليبهن الراقية في الكلام والعمل الاجتماعي والتطوعي.
حيث إن والدتي رجاء حجاج كانت هانم رائعة الجمال، وهي رائدة في العمل الاجتماعي والتطوعي، وتوفيت العام الماضي، لكنها تركت بصمات مضيئة على العمل العام في بلدنا.
فقد كانت تعمل بالعمل العام والتطوعي في خدمة ورفعة شأن بلدنا، وكانت رئيسة مجلس إدارة جمعية هدى شعراوي، ثم رئيسة شرفية لها آخر ثلاث سنوات في حياتها الزاخرة بالعمل الخيري والاجتماعي من أجل دعم ورعاية أحوال السيدات والمعيلات الأقل احتياجاً.
وجعلت منها خلال 35 سنة، تحت رئاستها وإشرافها أكبر جمعية ومؤسسة نسائية أهليه ترعى وتدعم النساء الأقل احتياجاً في مصر. وأنشأت فيه متحفاً للسيدة هدي شعراوي رائدة تحرير المرأة المصرية، ومكتبة عامة وأرشيفا بتاريخ نضال المصريات في ثوره 1919، وأدخلت فيها مشغلاً للأشغال اليدوية للنساء وحضانة للمرأة العاملة.
كما أدخلت فيها عضوات من أجيال وأجيال من أعمار مختلفة، حتى أجيال الشباب مثل ابنتي فقد شجعتهن وجعلتهن يحببن ويعملن بالعمل الخيري والاجتماعي إيماناً، منها بأن المرأة لا بد أن تعطي لبلدها جزءاً كبيراً من جهدها ووقتها في خدمة بلدها.
وقد نجحت في أن تغرس في هذا الشعور بالوطنية والانتماء والعمل العام من أجل رفعة شأن بلدي، ورأيت أيضاً والدتي تغرس في حب الثقافة والجمال والأناقة، كما نشأت على حب الرياضة والفنون واللغات، ونقلت هذه القيم والسلوكيات إلى أبنائي بدوري.
أما أبي فأحضر لي كتاباً فرنسياً في فن البروتوكول والإتيكيت ليغرس في أصول وفنون التعاملات الراقية في المجتمع وحب العمل والاعتماد على النفس وأهمية الكفاح وتحقيق النجاح في الحياة.
أما المعنى من كلامي هذا فهو أن البيت المصري بشكل عام كان ينشئ بناته على التعاملات الراقية والأخلاق والأناقة، لتصبح الفتاة (هانم)، وسيدة راقية في المجتمع. ويكون لها دور في دعم وخدمة بلدها.
أما بالنسبة إلى الولد فقد كان الأب والأم يغرسان في ابنهما الرجولة والشهامة والاعتماد على الذات والأخلاق والقيم الأصيلة ليصبح جنتلمان فيما بعد.
وكانت هذه قواعد ثابتة وعادات مستقرة في التنشئة بالعائلات العريقة في مصر. كل هذه القواعد تغيرت الآن، وكادت أن تختفي.. إن لم نحرص عليها وندرك أهميتها في بناء الشخصية المصرية المتفتحة المستنيرة الراقية ذات الأخلاق والقيم العريقة.
كانت مصر تتميز بأن سيداتها هوانم وأنيقات وجميلات الملامح، وكن يذهبن بكامل أناقتهن وزينتهن في كل مكان في الشارع وفي الزيارات وفي العمل وفي حفلات كوكب الشرق أم كلثوم بصحبة أزواجهن، وفي دور السينما والأندية الرياضية والاجتماعية. والحفلات والعزاء والأفراح.
وكنت أحرص على الأناقة والرقي في كل مكان، وفي كل تعاملاتي وفي الجامعة وفي عملي لأنني نشأت علي هذا، واستمر هذا في فكري وعقلي، لأنه من سمات التنشئة السليمة.
وما زلت أتذكر صديقه والدتي طنط بطة التي كانت حينما تزورنا هي وبعض صديقات والدتي تجلس للعزف على البيانو الأسود الكبير في بيتنا. ما زلت أتذكر سنوات الدراسة في الجامعة إننا كنّا نحرص على ارتداء الملابس الأنيقة والرقي في تعاملاتنا.
وما زلت أتذكر زميلاتي في كلية الاقتصاد والعلوم السياسية أننا كنّا نحرص على السلوكيات المتميزة في كل تعاملاتنا سواء مع أساتذتنا أو مع المعيدين والمعيدات أو مع زملائنا، وذلك لأننا نشأنا وتربينا على أيدي هوانم مصر الراقيات.
وكان معروفاً أن الموضة تنزل في مصر في الأربعينيات والخمسينيات والستينيات والسبعينيات والثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي فترتديها المصريات في نفس توقيت باريس، وكانت نجمات السينما يعكسن صورة هوانم مصر في الأفلام الأبيض والأسود.
ولدينا خير مثال على ذلك النجمات فاتن حمامة ولبنى عبد العزيز وماجدة ومديحة يسري وإيمان وسميرة أحمد، ثم جيل نجلاء فتحي وميرفت أمين وصفية العمري ثم يسرا وبوسي وليلي علوي وغيرهن.
وكلهن يجسدن في الأفلام بعض من صورة الحياة في مصر، إلا أننا الآن أمام موجة جديدة من كلمات وسلوكيات تكاد معها تندثر تعاملات الجنتلمان والهانم.
دخلنا في عصر نري فيه فوضي في السلوكيات والكلمات، وهناك أجيال يتم الآن تجاهل أو إهمال تربيتها على القواعد والأصول في السلوكيات والذوقيات.
وتسهم الدراما والأفلام والبرامج في تقديم سلوكيات ونماذج سيئة تتسم بالعشوائية والفوضى والبلطجة والعنف والكلمات والتعاملات الفجة، وهكذا ظهرت موجة السلوكيات العشوائية التي أريد أن أتوقف عندها في مقال مقبل.
ومع السنوات الأخيرة ومع ظهور وانتشار مواقع التواصل الاجتماعي والإنترنت بدأت تغيرات أخرى في السلوكيات والقيم وأساليب الحياة وممارسات مختلفة ومستجدة علينا أن نتنبه إلى سلبياتها كثيرة.
وأن نفكر في كيفية شكل وأسلوب الحياة في مجتمعنا حتى نحافظ على السمات السليمة والإيجابية والجميلة التي طالما ميّزت الشخصية المصرية.
مما يجعلني أواصل الحديث مع القارئ في هذا الموضوع المهم المتعلق بمجتمعنا في العدد المقبل إن شاء الله.