المرض النفسي في عالم التواصل الاجتماعي: تصحيح المفاهيم الخاطئة وتحدي الوصمة
في عصر تهيمن فيه وسائل التواصل الاجتماعي على حياتنا، أصبحت هذه المنصات مرآة تعكس واقعنا بكل تفاصيله، بما في ذلك القضايا الصحية. وعلى الرغم من أن مواقع التواصل الاجتماعي ساهمت في زيادة الوعي بالصحة النفسية وكسر بعض الحواجز، إلا أنها أدت أيضًا إلى انتشار مفاهيم خاطئة وأخطاء شائعة حول الأمراض النفسية. هذه الأخطاء، سواء كانت ناتجة عن نقص المعرفة أو التسرع في التعبير، يمكن أن تعزز الوصمة، تضلل الباحثين عن المساعدة، وتعيق الفهم الحقيقي لطبيعة المرض النفسي. دعنا نستعرض أبرز هذه الأخطاء وكيف يمكننا تحديها لتعزيز بيئة رقمية أكثر دعمًا ووعيًا.
تأثير مواقع التواصل الاجتماعي على تصورنا للمرض النفسي
تتمتع منصات مثل فيسبوك، تويتر، إنستغرام، وتيك توك بقوة هائلة في تشكيل الرأي العام. عندما يتعلق الأمر بالصحة النفسية، يمكن أن تكون هذه القوة ذات حدين:
- الجانب الإيجابي: توفير مساحات للدعم، تبادل الخبرات، ونشر المعلومات من قبل متخصصين أو متعافين، مما يقلل من الشعور بالوحدة والعزلة.
- الجانب السلبي: انتشار المعلومات غير الدقيقة، تضخيم بعض الأعراض، التشخيص الذاتي، أو استخدام لغة تساهم في وصم المرضى.
أبرز الأخطاء الشائعة عن المرض النفسي على مواقع التواصل الاجتماعي
إليك مجموعة من المفاهيم الخاطئة والعبارات المتداولة التي يجب أن نكون حذرين منها:
1. “المرض النفسي ضعف في الشخصية أو قلة إيمان”
هذه واحدة من أخطر المفاهيم الخاطئة وأكثرها انتشارًا. يُنظر إلى المرض النفسي خطأً على أنه نقص في القوة العقلية، أو عدم القدرة على “تجاوز” المشكلة بالإرادة فقط، أو حتى عقاب إلهي.
- لماذا هو خطأ؟ الأمراض النفسية هي حالات طبية معقدة تنشأ عن تفاعلات بين عوامل بيولوجية (كيمياء الدماغ، الوراثة)، نفسية (تجارب الحياة، الصدمات)، واجتماعية (البيئة، الدعم). هي لا تختلف عن الأمراض الجسدية مثل السكري أو أمراض القلب. لا يمكن لأحد أن يختار أن يصاب بالاكتئاب أو اضطراب ثنائي القطب، تمامًا كما لا يمكنه أن يختار الإصابة بالسرطان.
2. “الاكتئاب مجرد حزن عابر، ويمكن التغلب عليه بالاستمتاع بالحياة”
يخلط الكثيرون بين الحزن الطبيعي الذي يمر به أي إنسان نتيجة لظروف الحياة، وبين الاكتئاب السريري (الاكتئاب الشديد)، وهو اضطراب نفسي معقد.
- لماذا هو خطأ؟ الاكتئاب السريري يتجاوز مجرد الشعور بالحزن. إنه حالة مستمرة تؤثر على التفكير، المشاعر، السلوك، النوم، الشهية، ومستوى الطاقة. لا يمكن “الخروج منه” بمجرد التفكير الإيجابي أو قضاء وقت ممتع. يتطلب علاجًا متخصصًا قد يشمل العلاج النفسي و/أو الأدوية.
3. “من يتحدث عن مرضه النفسي يبحث عن الاهتمام أو المبالغة”
عندما يشارك أحدهم تجربته مع المرض النفسي على وسائل التواصل الاجتماعي، قد يواجه اتهامات بالبحث عن الشفقة أو المبالغة في معاناته.
- لماذا هو خطأ؟ مشاركة التجربة الشخصية مع المرض النفسي غالبًا ما تكون خطوة شجاعة تتطلب قدرًا كبيرًا من الضعف والقوة. الأفراد الذين يشاركون قصصهم غالبًا ما يهدفون إلى كسر الوصمة، دعم الآخرين، أو إيجاد شعور بالانتماء. إن وصمهم بالبحث عن الاهتمام يثبط هذه الجهود ويعزز الصمت حول قضايا الصحة النفسية.
4. “يمكنني تشخيص نفسي أو الآخرين بناءً على معلومات الإنترنت”
يُعد التشخيص الذاتي أو تشخيص الآخرين بناءً على قوائم الأعراض أو القصص الشخصية المنتشرة على الإنترنت أمرًا شائعًا وخطرًا جدًا.
- لماذا هو خطأ؟ تشخيص الأمراض النفسية عملية معقدة تتطلب تدريبًا متخصصًا وتقييمًا شاملاً من قبل أخصائي صحة نفسية مؤهل (مثل طبيب نفسي أو أخصائي نفسي). الأعراض المتداخلة، وتنوع الاضطرابات، والحاجة إلى استبعاد الأسباب الطبية الأخرى، كلها تجعل التشخيص الذاتي غير موثوق به وقد يؤدي إلى سوء فهم أو عدم الحصول على العلاج المناسب.
5. “الأدوية النفسية تجعلك شخصًا آخر أو تسبب الإدمان”
تنتشر الكثير من المخاوف والمفاهيم الخاطئة حول الأدوية النفسية، مما يمنع الكثيرين من الحصول على العلاج الذي يحتاجونه.
- لماذا هو خطأ؟ الأدوية النفسية (مثل مضادات الاكتئاب أو مضادات الذهان) مصممة لتصحيح اختلالات كيميائية معينة في الدماغ. هي لا تغير شخصية الفرد، بل تساعده على استعادة توازنه والتعامل مع الأعراض. معظم الأدوية النفسية لا تسبب الإدمان بالمعنى التقليدي (مثل المخدرات)، ولكن قد تتطلب خطة سحب تدريجي تحت إشراف طبي لمنع أعراض الانسحاب. رفض العلاج الدوائي بسبب هذه المفاهيم الخاطئة يمكن أن يؤدي إلى تفاقم الحالة.
6. “كل من يعاني من اضطراب نفسي هو شخص عنيف أو غير مستقر”
يساهم الإعلام وبعض المنشورات على وسائل التواصل الاجتماعي في ربط المرض النفسي (خاصة الذهان) بالعنف، مما يؤدي إلى زيادة الخوف والتمييز.
- لماذا هو خطأ؟ الغالبية العظمى من الأشخاص الذين يعانون من أمراض نفسية ليسوا عنيفين، بل هم أكثر عرضة لكونهم ضحايا للعنف. الربط بين المرض النفسي والعنف هو وصمة عار تضر بشدة بالأفراد الذين يعانون من هذه الحالات، وتجعلهم يخشون طلب المساعدة.
7. “العلاج النفسي مجرد كلام، أو فقط للمجانين”
يُستهان بقيمة العلاج النفسي، ويُنظر إليه أحيانًا على أنه مضيعة للوقت أو أنه مخصص فقط للحالات الشديدة جدًا.
- لماذا هو خطأ؟ العلاج النفسي، بأنواعه المختلفة (مثل العلاج السلوكي المعرفي CBT)، هو تدخل علاجي قائم على الأدلة يساعد الأفراد على فهم وتغيير أنماط التفكير والسلوك غير الصحية، تطوير مهارات التأقلم، وحل المشكلات. إنه أداة قوية للتعافي وإدارة مجموعة واسعة من الأمراض النفسية، وليس مخصصًا فقط “للمجانين”، بل لأي شخص يسعى لتحسين صحته النفسية.
كيف نساهم في بيئة رقمية أكثر وعيًا؟
مسؤوليتنا جميعًا هي تحدي هذه المفاهيم الخاطئة والمساهمة في بيئة رقمية داعمة:
- تحقق من المصادر: قبل مشاركة أي معلومة عن الصحة النفسية، تأكد من أنها تأتي من مصادر موثوقة (منظمات صحية، متخصصون).
- استخدم لغة محترمة وواعية: تجنب المصطلحات المسيئة أو التي تعزز الوصمة. ركز على الشخص وليس المرض.
- لا تشخص الآخرين: تجنب التعليقات التي تحاول تشخيص حالة شخص ما أو تقديم نصائح طبية غير مؤهلة.
- ادعم المحتوى الإيجابي: شارك المحتوى الذي يعزز الوعي الصحيح ويكسر الوصمة.
- كن متعاطفًا: تذكر أن كل شخص يمر بتجربة فريدة، وأن الصحة النفسية رحلة معقدة.
- شجع على طلب المساعدة المهنية: بدلًا من تقديم نصائح غير مؤهلة، وجه الأفراد لطلب المساعدة من أخصائيي الصحة النفسية.
إن المرض النفسي ليس خيارًا ولا ضعفًا، بل هو تحدي صحي يتطلب الفهم والدعم والعلاج المناسب. مواقع التواصل الاجتماعي لديها القدرة على أن تكون قوة إيجابية في نشر الوعي، ولكن فقط إذا كنا حذرين من المعلومات التي نستهلكها ونشاركها. دعونا نعمل معًا لتصحيح المفاهيم الخاطئة، تحدي الوصمة، وبناء مجتمع رقمي يدعم الصحة النفسية للجميع.