الشعوب.. بين السِلمِ والحروب

لايت نيوز

0:00

الشعوب.. بين السِلمِ والحروب

بقلم: أ د. عمرو بسطويسي

ها نحن، وبعد أن وصل الحوار بين روسيا من جهة وأوكرانيا ودول حلف الناتو من جهةٍ أخرى إلى شارعٍ مسدود، نرى الحرب وقد كشفت عن وجهها القبيح على أرض أوكرانيا.

وها نحن نرى الحرب تدور رُحاها، تارةً بالمدفع والدبابة والطائرة، وتارةً باستخدام الحصار الاقتصادي والمنع التجارى، وتارةً ثالثة في المجال السيبراني والعبث في الفضاء التخيلي.

أما الفضاء الحقيقي فلم يسلم من التهديد الروسي بقصف الأقمار الصناعية للدول المعادية بصواريخ تنطلق من أقمارٍ مماثلة. وإن لم يحدث هذا حتى اللحظة، إلا أنه يُعدُّ – تاريخياً – إيذاناً وعلامةً لبدء عصر حرب الفضاء، وهي حرب لا تُحمد عقباها، ولا يعلم منتهاها إلا الله تعالى.

وليس هذا كل شيء، بل إن الأبواب لكل الاحتمالات المأساوية مفتوحة على مصراعيها، ولا يوجد هنالك أدل على ذلك من وجه وزير الدفاع الروسي الذي امتعض لثوانٍ عندما أصدر له رئيسه فلاديمير بوتين توجيهاته بأن يضع السلاح النووي الروسي في حالة التأهب القصوى لردع من تسول له نفسه التدخل ومنع التقدم الروسي.

نعم، لقد امتعض وجه الرجل، ليس اعتراضاً على الأمر، ولا عدم قبول منه، ولكن كونه يدرك هول هذه القوة النووية، التي تمثل نصف ما يمتلكه العالم من سلاح نووي، وكونه يدرك ما يمكن أن يحل بالعالم من أهوالٍ ودمار إذا تم استخراج تلك الحقائب عالية السرية والتي تحمل شفرات إطلاق الصواريخ النووية، وضغطت أصابع القادة أزرار نهاية العالم.

ولم يجنح السيد بوتين إلى التهديد وحسب، بل أدار تجربةً حية، وأطلق من تحت الأرض صاروخه العملاق والذي يبلغ من الطول 35 متراً وبقطر ثلاثة أمتار. هذ الصاروخ يحمل اسم (RS-28 Sarmat) أوكما وصفوه بصاروخ “يوم القيامة”، وهو عابر للقارات بمدى يصل إلى 18000 كم، وقادر على الوصول إلى أي مكانٍ فى العالم، وإطلاق أربعة عشر رأساً نووياً موجهة إلى أربعة عشر هدفاً دون أن يكون هناك في هذا العالم أية منظومة مضادة للصواريخ تستطيع إيقافه!

لم تكن هذه الحرب التي اندلعت وليدة اللحظة، لكنها كانت ختاماً لسلسةٍ من التحذيرات أطلقها الروس، على مدى سنوات، مُحذرين من أن تنضم إلى حلف الناتو أوكرانيا المتاخمة لحدودهم والشريك السابق فى الاتحاد السوفيتي. هذا الانضمام الذي يحمل في طياته اقتراب صواريخ الحلف من الأراضي الروسية، مما يشكل تهديداً واضحاً للأمن القومي الروسي حسبما يرى الروس. ومن ناحية أخرى يرى القادة الأوكرانيون أن من حقهم أن ينضموا بحريةٍ إلى ما يشاؤون من تحالفات، غير مدركين إلى أين تنزلق أقدامهم جارّين شعبهم من ورائهم إلى منحدر الحرب ومستنقع الهلاك.

لقد تمادى الرئيس الأوكراني فى جرأته أمام الدب الروسي العنيد، ولم يدرك لوهلةٍ أن أمريكا وبقية حلفاء الناتو سيتخلون عنه ويتركوه وحده يصارع الدب الروسي الضخم بجسده الهزيل في معركةٍ غير متكافئة، وإن لم يتوانوا عن التصفيق الحاد وتوزيع الأحضان في المحافل الدولية وإصدار بيانات الشجب والتنديد على منصات الإعلام.

ولم يدرك السيد زيلينيسكي أن دول الغرب لن تتخلى عن الغاز الروسي في مقابل انضمام بلده إلى حلفهم، ولم يدرك أنهم لن يغامروا بإيقاظ الدب النووى الروسي من نومه، ويعلنوا بهذا نهاية أوروبا وعودتها إلى عهود الظلام.

نعم، لقد سقط الشعب الأوكراني بين مطرقةٍ وسِندانْ. مطرقة جيش روسيا الذي لا يرحم ولا يتوقف حتى يأخذ ما يريد ويقوده السيد بوتين، رجل المخابرات المخضرم والطامح لاستعادة مجد الاتحاد السوفياتي الذي تفكك فى عام 1991، تاركاً العالم تحت سيطرة قطبٍ أمريكي واحد يفعل ما يريد دون مواجهة أوحساب.

أما السندان فكان الرئيس الأوكراني زيلينيسكي، الممثل الكوميدي السابق، بخلفيته اللا سياسة وحكومته والذين فشلوا فى إدراك ما تأخذه إليه أقدامهم، ولم يتمكنوا من قراءة المشهد بشكلٍ سليم.

إن أوكرانيا الغنية بثرواتها ومصانعها قد تحولت بين ليلةٍ وضحاها إلى ساحة حرب ضروس، وبينما يختبئ الرئيس الأوكراني فى مكانٍ غير معلوم وينشر كلماته وتهديداته على منصات التواصل، نجد الجيش الروسي – حتى لحظة كتابة هذا المقال- قد احتل بشكلٍ كامل مدينة “خيرسون”، ولا زال يحاصر أكبر المدن الأوكرانية، وعلى رأسها العاصمة “كييف”، بينما يتحدث قادة الناتوعن حكومةٍ أوكرانية في المنفى مقرها بولندا!

إن الشعب الأوكراني، الذي يعاني الآن ويلات حرب لا ناقة له فيها ولا جمل، ليس إلا مثلاً مكرراً على مدى تاريخ العالم حين يفشل الساسة فى الحوار وتصطدم المصالح وتنطلق المدافع لتحيل حياة الناس إلى جحيم، وتُزهق آلاف الأرواح بغير حق وتندثر أحلام الطفولة تحت أزيز الطائرات، ويلقى المزارعون بفئوسهم ليحملوا بدلاً منها البنادق، وتُقتل أحلام العذارى مع حبيبٍ ذهب ليقاتل ولم يعد.

ستنتهي الحرب على أية حال، وسيزهو القائد المنتصر بنصره، ويتوارى المغلوب في أحضان من كان يسانده، ويأوى في كنفه.

نعم، ستنتهي الحرب يوماً ما ولا ضحية لها ولا مغلوب إلا الشعوب.