أمام الزعيم.. فوق السد العالي!
ذكريات صحفية
بقلم : أحمد عمر
مؤسس ورئيس تحرير مجلة ماجد الأسبق
كانت رؤية الزعيم جمال عبد الناصر عن قرب حلماً يراودني وأنا أمر بسنواتي الأولى في عالم الصحافة.
كان مجرد حلم أشبه بالمستحيل مع زعيم يعمل ليلاً ونهاراً!
المرة الأولى التي رأيت فيها الزعيم الخالد كانت في شارع رمسيس، وبالتحديد أمام معهد الموسيقى العربية.
كان الطريق مغلقاً تمهيداً لمرور موكب الرئيس عبد الناصر والزعيم السوفيتي خروشوف.
كان الزعيمان يستقلان سيارة مكشوفة، يردان التحية للجماهير التي احتشدت للترحيب والهتاف لهما.
وقفت بين الجماهير أتطلع إلى اللحظة التي يقترب فيها الموكب، لأرى على بعد أمتار قليلة جداً الزعيم واقفاً. يحيي ويبتسم للجماهير المحتشدة.
في لحظه التقت عيني بعين الرئيس، أحسست كأنه ينظر إليّ وحدي.
كم كانت لحظات سعيدة ومؤثرة بالنسبة لي، رغم يقيني أن الزعيم لم يكن يخص أحداً بهذه النظرات.
المرة الثانية التي رأيت فيها الزعيم كانت في أسوان، يوم ١٤ مايو ١٩٦٤. يوم تحويل مجرى النيل.
هذا اليوم التاريخي الذي شهده مع عبد الناصر الزعيم السوفيتي خروشوف، الذي أسهمت بلاده في إنجاز هذا الصرح العملاق.
تمهيداً لهذا الحدث العظيم أقيمت منصة للزعيمين قرب السد، على بعد بضع مئات من الأمتار من كبار الضيوف الذين شهدوا الاحتفال.
كان الوصول إلى منصة الزعيمين أشبه بالمستحيل. أخذت مكاني في مكان الاحتفال مع الضيوف لألتقي بالصدفة الرجل المسؤول عن العلاقات العامة في السد العالي العميد حمروش، على ما أذكر. كان شخصية مرموقة، ازدادت صلتي به.
حيث أمضيت شهراً كاملاً في السد العالى، أكتب كل يوم مقالاً، في جريدة الأخبار، تحت عنوان: (باق.. كذا يوم.. على تحويل مجرى النيل). وأذكر الأيام الباقية على التحويل.
أخبرني المسؤول بالسد العالي أنه متجه إلى المنصة التي يقف عليها عبد الناصر. طلبت مرافقته فلم يمانع، وكثيراً ما كان يقدّم لي خدمات تساعدني على أداء عملي.
ومنها أن يسمح لي باستخدام هاتف وزير السد العالي الشخصي، لأملي رسالتي اليومية لجريدة الأخبار، حين كانت الاتصالات الهاتفية في مصر في حالة سيئة جداً.
المهم وصلت إلى منصة الرئيس في نفس اللحظة التي بدأ فيها الاحتفال، وكان الحرس الجمهوري مشغولاً بتأمين الرؤساء.
وجدت ساتراً وقفت بجواره أتابع لحظة بلحظة كل ما يدور فوق المنصة، والأحاديث بين الرئيس وضيوفه، ومشاهد اللحظة التاريخية حين أعطى الزعيمان إشارة تحويل مجرى نهر النيل، والبدء الرسمي لتشغيل السد العالي.
رغم مرور أكثر من نصف قرن على هذه الأحداث، فإنني أتذكّر كل لحظة فيها، وكأنها حدثت أمس.
ليلة لا تنسى فوق ورق الصحف!
المكان: مدينة سوهاج.
الزمان: منذ نحو ٦٠ عاماً.
ما أرويه لكم الآن مجرد طرفة! قرب الفجر وصل قطار الصعيد إلى محطة سوهاج، ليبقى دقائق معدودة يواصل بعدها رحلته إلى أسوان، نزلت مع الركاب، وكان أول ما بحثت عنه عربة حنطور تمهيداً للبحث عن فندق مناسب للمبيت ليلة، أتوجه بعدها للقاء محافظ سوهاج.
كان المفروض أن أتصل بالمحافظة قبل وصولي بيوم لإجراء الترتيبات للفندق، لكني لم أجد أن هناك ضرورة لذلك، وأن بإمكاني أن أدبر الأمر.
ركبت الحنطور، وطلبت من السائق أن يوصّلني إلى أفضل فندق في المدينة، لكنه ظل يسير طويلاً ليحصل على أجر أكبر، ثم أوصلني إلى فندق، لم أنتبه إلى مستواه جيداً وقد حلّ بي التعب.
دخلت غرفتي لأفاجأ بالسرير مغطى بملاءة أقرب إلى اللون الرمادي من شدة اتساخها. طلبت استبدالها لكن العامل اعتذر، لأن تغيير الملاءات يتم كل شهر.
كنت في موقف لا أحسد عليه. لا مفر من المبيت في هذا المكان. البديل الشارع. تفتق ذهني عن حل، كانت معي مجموعة من الصحف. فرشتها فوق ملاءة السرير لعلها تخفي لونها الكئيب. نمت ليلة مليئة بالكوابيس!
عرفني بعد 9 سنوات سجناً
أمضى الصحفي الكبير مصطفي أمين 9 سنوات في السجن، متهماً في قضية تخابر مع الأمريكان، قدمت الأجهزة المسؤولة الدلائل حول الاتهامات الموجّه إليه.
ظل بالسجن طوال هذه المدة، سرّب خلالها كتاباته التي دافع فيها عن نفسه.
أخيراً أفرج عنه الرئيس أنور السادات إفراجاً صحياً، وأعاده إلى عمله الصحفي.
أنا لا أعيد البحث في القضية، لكني أروي واقعة عن مصطفى أمين الذي كان يوصف بالذكاء الحاد وقوة الذاكرة.
بعد خروجه من السجن وعودته إلى عمله، كان يهم بدخول أخبار اليوم حين استوقفه عدد من العاملين، وراحوا يتبادلون معه الحديث.
كان يبدو سعيداً بحديثهم في هذه اللحظة كنت أغادر مبنى أخبار اليوم، وقرب الدرج الخارجي لمحت الجمع الذي يحيط بمصطفى أمين، فقررت التوجه إليهم.
كنت قد قابلته عدداً محدوداً من المرات قبل دخوله السجن. لا أعتقد أنه ما زال يتذكّرني.
توجّهت للسلام عليه، قبل أن أصل إليه بخطوات رأيته يشير إليّ قائلاً: لا تقل من أنت؟ أنت.. أنت.. أنت أحمد عمر. نعم.. أحمد عمر.
هكذا.. رغم سنوات السجن الطويلة، لم ينس مصطفى أمين شاباً في بداية عمله الصحفي، لم يره إلا مرات محدودة!
للذكريات بقية، موعدنا الشهر القادم.