حتى لا يختفي عصر الجنتلمان والهانم
بقلم : دكتور : منى رجب
نحن نعيش حالياً في ملامح عصر مختلف لم تعد الأصول فيه هي التي تتسيّد في التعاملات بين الناس.. بل الغالبية الآن لا تعرف كلمة الأصول.. ولا تعرف كيفية التعامل بها.. ولم يعد الذوق هو مفتاح الوصول للتفاهم أو حتى الحديث مع الآخرين.
ولم تعد التنشئة بين الأسر لأبنائهم سواء الولد أو البنت تتبع قواعد التربية السليمة والصائبة والتحلي بالقيم الأصيلة والأخلاق النبيلة.
ولم تعد كلمات الذوق والأخلاق والقيم بين الناس هي سمة التعاملات والسلوكيات والمعاملات.. وتغيّرت معايير الذوقيات والعيب، ولم تعد هناك فواصل محددة بين ما هو خطأ وما هو صواب.
تغيّرت السلوكيات في مجتمعنا إلى أساليب وممارسات، كثير منها سيئ وقليل منها سليم وراق، وتحوّلت التعاملات إلى تعاملات جافة، تخلو من الذوق واللطف والتسامح والقبول، وتحول الكثير منها إلى تعاملات مرفوضة في المعاملات اليومية بين الناس.
لقد حدثت تغيرات نعم في كل العالم، وأنا لا أختلف مع هذا. لكنني أختلف أن تتغير سمات الشخصية المصرية إلى النقيض تماماً مما كانت عليه، بسبب أهداف مغرضة أو دعاة متطرفين أو أفلام ودراما تتسم معظمها في السنوات الأخيرة، تحديداً ما بعد أحداث يناير 2011، بالبلطجة والفوضى والعنف والصوت العالي ودعوات متطرفة ومتشددة مشبوهة ومتخلفة للتقليل من شأن المرأة والفتاة المصرية.
إن المرأة والفتاة المصرية كانت ذات يوم ومنذ سنوات ليست بعيدة تتسم بالأناقة والذوق والثقافة والجمال المصري المعروف في العالم كله. وحتى الفلاحة المصرية وابنة الحارة المصرية كنا نراها في الأفلام شامخة ومرفوعة الرأس وثابته الظهر ترتدي أزياء ذات ألوان مبهجة، وكانت بشكل عام جميلة الملامح.
وكان وجههاً معروفاً في العالم بسمرة تسر الناظرين إليها، ودعونا نتذكّر أفلاماً شهيرة شاهدناها جميعاً واستمتعنا بها، لأنها تعكس لنا ملامح الحياة في مصر، وشكل ومظهر المرأة والبنت فيما قبل 2011، فنرى معاً الفرق بين الحياة اليوم والحياة قبل عشرين عاماً.
وهي لفئات مختلفة من المجتمع المصري، منها الفئات العاملة أو الطبقة الوسطى، مثل (أنا حرة) للبنى عبد العزيز و(في بيتنا رجل) لزبيدة ثروت، و(البنات والصيف) لماجدة و(باب الحديد) بطولة الفنانة الجميلة هند رستم، و(زينب) بطولة راقية إبراهيم و(دعاء الكروان) و(الباب المفتوح) و(أريد حلاً) بطولة فاتن حمامة و(الزوجة الثانية) و(خللي بالك من زورو) بطولة سعاد حسني.
وكانت الكلمات المستخدمة في الحوار والتعاملات مناسبة لأساليب العائلات، لكنها لم تكن كلمات فجة مثل الآن، وكانت هناك قواعد في الحديث مع الآخرين، منها احترام الكبير والذوق في الطلب وفي تلبيه الطلب، وكنّا نستخدمها دائماً عندما كنّا صغاراً، لكنها كلمات تكاد تختفي من حياتنا مثل كلمة: (من فضلك)، و(لو سمحت) و(لو ممكن) و(ربِنَا يخليك)، و(صباح الفل) و(تسلم إيديك) و(أرجوك) و(دا من ذوقك)، و(أشكرك). و(صباح الفل) و(صباح الخير) و(عيدك سعيد)، و(مساء الخير) وغيرها. وهكذا تكاد سلوكيات العائلات العريقة والعائلات المصرية من الطبقة الوسطى تختفي شيئاً فشيئاً.
وهي سلوكيات الجنتلمان والهانم، لا وتكاد أن تندثر إن لم نحافظ عليها دائماً، ونحرص على غرسها في الأسرة وفي الدراما والأفلام والبرامج المختلفة والتوعية بها في كل مناسبة.
فالجنتلمان كان لقباً يطلق على الرجل في عصور الفروسية والشهامة، وهو لقب يطلق على الرجل النبيل الذي يتسم بسلوك مهذب وطيب، وهو يتمتع بالصلابة، ولديه ثقة في نفسه، ويُحسن معاملة الآخرين، ويستمع بهدوء إلى آرائهم، ويتحمّل المسؤولية، ويمكن الاعتماد عليه، وهو أيضاً رجل يتميز بالأناقة والنظافة، ولديه نضج في التصرفات.
وهو يقدم المساعدة لمن يحتاجها ويتمتع بشكل خاص بالكياسة وبالذوق في معاملة المرأة، وهو رقيق ومهذب في معاملتها، وفي صحبته تشعر المرأة بالأمان، وهو يجعلها تتقدمه في المصعد، ويساعدها حينما تكون متعبة، ويبدي لها الاحترام والمساعدة، حينما تحتاجها، ويحرص على التعبير بكلمات المجاملة لها، والجنتلمان يتميز أيضاً بالجلوس بطريقة صحيحة بدون التشويح بيديه أو المبالغة في الانفعالات.
وهو لا يسخر من أحد في حضوره أو غيابه، وهو الذي يقف عندما تدخل هانم أو سيدة إلى الصالون ليصافحها، وهو الذي إذا ما رأى سيدة أمام مصعد العمارة، فإنه يدعوها لتسبقه في الدخول إلى المصعد قبله، وهو إذا ما كان في مواصلات عامة كان يترك مقعده لها. وهو الذي يقدر مكانة المرأة ويحدثها بدماثة وبمنتهى الأخلاق. كان هذا يحدث في عصر أمي وجدتي وشهدت أنا في صغري بعضاً من ملامحه.
أما الهانم فهو لقب أصلاً تركي، وكان يطلق على سيدات تركيا اللاتي يسكنّ في القصور، ثم أصبح يطلق على السيدات في العصر الحديث بنوع من التبجيل والاحترام والتقدير، وهنّ يتمتعن بالأناقة والكياسة والذوق في تصرفاتهن، ويتمتعن بالأنوثة والتهذيب ويعرفن فنون الإيتيكيت والبروتوكول في سلوكياتهن.
وهن يجلسن بشكل محترم، ويبتسمون بشكل محترم، ويحرصن على تعلم أصول التحدث بلطف في المجتمعات، ولهن قدرة على أداء الواجبات الاجتماعية، مثل المباركة والعزاء والمجاملة في أوقات الضرورة، وهن على استعداد للعمل التطوعي والاجتماعي.
ومنهن من تعمل في مهن مختلفة، وناجحات ومتألقات في المجتمع، لكنهن بشكل عام يحرصن في كل وقت على القيم والأخلاق والذوق والرقي في السلوكيات، وفي أثناء أداء أعمالهن أو مسؤولياتهن، وما زالت في المجتمع المصري نماذج كثيرة معروفة وشهيرة ونماذج كثيرة غير معروفة.
لكنها ما زالت تحرص على الرقي في التعاملات، لكنهن من ناحية أخرى لسن الأغلبية فقد تغير شكل الشارع.
وأخشى أننا إن لم نحافظ نحن الذين تربينا على الأصول والأخلاق والرقي والفنون والثقافة والأناقة والوطنية. أخشى أن تندثر ملامح الهوية المعروفة للمرأة المصرية.
وهذا دور المرأة المصرية الآن أن نحافظ على ملامح وقيم ومظهر وسلوكيات وأناقة ورقي المرأة المصرية، وأن تنقلها من جيلها إلى الأجيال الأخرى .. وللحديث بقية في العدد القادم.