مدريد: حكاية مدينة من مجريط إلى العاصمة الإسبانية.
في زمن بعيد حين كانت شبه الجزيرة الأيبيرية تزخر بالحضارة الإسلامية، بُنيت على ضفاف نهر مانثاناريس مدينة صغيرة حملت اسم «مجريط». هذه المدينة، التي بدأت كحصن صغير في عهد الأمير محمد بن عبدالرحمن الأوسط، تحولت عبر العصور إلى واحدة من أهم عواصم أوروبا الحديثة، مدريد.
بدأت حكاية مجريط في عام 855 ميلادية، عندما قرر الأمير الأموي تأسيس حصن لحماية حدود إمارة قرطبة من الممالك المسيحية في الشمال. كان لموقع المدينة الفريد، الذي اختير بعناية بالقرب من الينابيع المتدفقة من التلال المحيطة، دورٌ كبير في تسميتها، حيث تعني «مجريط» باللغة العربية «مجرى الماء» أو «مكان الينابيع».
وبمرور الزمن، ازدهرت المدينة تحت الحكم الإسلامي، وتطورت لتصبح مركزًا حضريًا يعج بالحياة، رغم أنها لم تكن كبيرة بحجم قرطبة أو إشبيلية. بقايا تلك الفترة لا تزال ظاهرة حتى اليوم، حيث يمكن لزائر مدريد أن يعثر على آثار أسوار المدينة القديمة في ساحة «كوستا دي لا فيغا»، التي تقف شاهدة على هذا التاريخ العريق.
ولكن كيف تحولت مجريط إلى مدريد الحديثة؟، وكيف أثر هذا التاريخ الإسلامي على الثقافة المدريدية حتى يومنا هذا؟
الإجابة تكمن في تنوع العناصر التي شكلت هوية مدريد. فالطهي، مثلًا، يحمل بين طياته تأثيرات عميقة للفترة الإسلامية. إذ أدخل العرب إلى إسبانيا العديد من المكونات مثل الزعفران، اللوز، والأرز، التي أصبحت حجر الزاوية في العديد من الأطباق الإسبانية. كما أن تقنيات الطهي البطيء واستخدام التوابل مثل الكمون والقرفة، التي تعود أصولها إلى الحضارة الإسلامية، لا تزال حاضرة في المطبخ المدريدي.
ومن الحلويات التي تحمل بصمة عربية واضحة، المظروفة (Mazapán) والبسكوتشو (Bizcocho)، حيث يمكننا تذوق تاريخ طويل في كل لقمة. وحتى اليوم، يبقى مشروب الهورتشاتا (Horchata) الذي يعود أصله إلى العصر الإسلامي، أحد المشروبات الصيفية المفضلة في مدينة مدريد.
مدريد، كونها بوتقة انصهار للثقافات المختلفة، تحتفظ بذكريات من كل فترة تاريخية مرت عليها. ومع كل خطوة تخطوها في شوارعها، يمكنك أن تشعر بهذا المزيج الفريد الذي يجعل منها مدينة لا تُنسى، حيث يلتقي فيها الماضي مع الحاضر.