![]()
فان جوخ .. عبقري قتله الجنون والفقر فلم ير لوحاته تباع بالملايين.
كتب : سارة بدران
فان جوخ اسم عظيم في عالم الفن التشكيلي، فهو الفنان الذي استطاع أن يحظى باحترام وتقدير وإعجاب مؤرخي ونقاد وعشاق الفن التشكيلي في كل أرجاء العالم. مما جعل أعماله تحتل مكاناً بارزاً ومتميزاً في متاحف العديد من الدول.
لكن وراء كل هذه العبقرية حياة بائسة عاشها فان جوخ وحيداً شريداً بلا أصدقاء ولا أحباء حتى انتهى به الحال إلى مصحة للأمراض العقلية. فلم يشهد لوحاته وهي تباع بملايين الدولارات بعد أن كان لا يجد قوت يومه.
ولد فان جوخ في بلدة زونديت بهولندا عام 1853 لأب عمل قسيساً بكنيسة البلدة، وهو الأب الذي زرع في أعماق هذا الصغير من خلال الجو الديني الصارم الذي أحاط بالأسرة مثلاً عليا ربما كانت تصطدم كثيراً جداً بالواقع طوال حياة فان جوخ.
عندما بلغ السادسة عشرة من عمره اصطحبه عمه، ليعمل معه في القاعة التي يديرها والمتخصصة في بيع الأعمال الفنية في باريس، ومن خلال هذا العمل تعرف فان جوخ على عالم الفن، وتحمّس لبعض الأعمال ولبعض الفنانين، ولهذا بذل جهده في إقناع عملائه بشراء أعمال هؤلاء الفنانين، وبلغ من نجاحه أن قررت المؤسسة نقله إلى لندن ليدير فرعها هناك.
واستمر هذا النجاح الذي صاحبه اهتمام (فان) بمظهره وأناقته الشخصية إلى أن أحب إحدى الفتيات، وتدعى أرسيولا، لكنه عندما طلب منها الزواج هزأت به وصدته في خشونة شديدة، مما جعله يصاب بما يشبه الهوس الديني، فبدلاً من أن يناقش العملاء عن جماليات اللوحات المعروضة بالقاعة التي يديرها أخذ يحثهم على الدين، مما جعل الشركة تعيده إلى باريس حيث تدهورت حالته النفسية، وانطوى على نفسه وأصابته الكآبة.
وقبل أن تقرر الشركة فصله كان قد قدم إقالته عازماً على تكريس حياته للخدمة الدينية بعد أن اتجه إلى لندن ليعمل كمدرس للغة الفرنسية، لكن جو لندن المظلم الكئيب وذكريات جرحه العاطفي جعلت حالته النفسية تزداد سوءاً، فعاد إلى هولندا حيث التحق بمعهد لاهوتي في أمستردام، وعكف على الدراسة الجادة ستة أشهر حتى أصابه الملل.
وقرر أن يعمل واعظاً بين عمال المناجم والفلاحين في إحدى قرى بلجيكا، حيث عايش المرضى بحمى التيفود وحاول تخفيف آلام الاحتضار عليهم، وسهر مع الفقراء والجرحى، متخطياً بذلك الحدود المرسومة له كمبعوث ديني إلى نوع من الامتزاج والتوحد الكلي، حيث يقضي أيامه ولياليه بين هؤلاء لا يأكل إلا معهم، مما زاد من تعلق هؤلاء العمال به حتى طردته السلطات الدينية قبل أن يمر عام واحد على تسلمه لهذا العمل، وذلك لعدم اقتناعهم بطريقته في تطبيق التعاليم المسيحية على هذا النحو.
وهو الأمر الذي زاد من أزمته النفسية، حيث شعر بالفشل في كل ما أسند إليه من أعمال بجانب فشله في حبه، لكنه قرر ألا يستسلم، فما لبث أن كتب لأخيه (تيو) ليقول له «إنني بالرغم من كل شيء سوف أنهض ثانية سوف أتناول من جديد ريشتي التي تخليت عنها في أيام انكساري، وسأعود للرسم».
ومنذ ذلك الحين آمن تيو بأخيه فان جوخ، وسنحت له الفرصة ليخرج أعظم الأعمال الفنية، حيث لم ينقطع تيو طيلة السنوات العشر التالية عن بذل المعونة المالية لأخيه وتشجيعه ومساعدته بكل ما استطاع توفيره من دخله المتواضع.
وببلوغ فان جوخ السابعة والعشرين من عمره التحق بأكاديمية الفنون في مدينة انفري، حيث بدأ حياته في عالم الألوان.
عكف على رسم الفلاحين الهولنديين وعمال المناجم والبؤساء، مسجلاً ما نقش في مخيلته من ذكريات في مجموعة من اللوحات الحزينة القاتمة القوية التعبير، وهي المرحلة التي يطلق عليها في فنه المرحلة الهولندية، ثم رحل فان جوخ إلى باريس للإقامة مع أخيه في استوديو حيث كان أخوه من تجار الصور.
هذا الفنان العبقري لم يكن يرسم فقط، بل كان يكتب أيضاً بنفس الحرارة والتوهج كماً هائلاً من الرسائل والخواطر إلى شقيقه (تيو)، التي جُمعت في كتاب من ثلاثة مجلدات، تضمنت آراءه في الرسم وفي النقد والمجتمع والمرأة وعن نفسه.
وسعد فان جوخ كثيراً بصحبة أخيه بعد ما قاساه من وحشة وحرمان، وكذلك سعد بحياته الجديدة في باريس، فما لبث أن تغيرت ألوانه القاتمة، وحلت محلها الألوان الزاهية البراقة التي ربما عكست رؤيته للحياة في تلك الفترة، التي اتجه فيها إلى دراسة النظريات والأساليب الفنية الجديدة ومناقشتها مع أصحابها، بل وتجربتها في لوحاته، كما تعرف خلال هذه الفترة على عدد من الفنانين الشباب، منهم تولوزلوتريك وبول جو جان، كما تأثرت لوحاته بالرسوم اليابانية المطبوعة.
وبعد مضي عام آخر كان قد استوعب كل ما حوله من تجارب، ليصبح مهيئاً لمرحلة ناضجة استغرقت بقية حياته، وفي هذه المرحلة دعا بول جوجان إلى الإقامة معه، وهو يحلم بإنشاء رابطة للفنانين، وبأن يكون منزله هو نواة تحقيق هذا الحلم، إلا أن وصول جوجان أعقبته المتاعب، فالمناقشات احتدمت والخلاف في الرأي اتسع، وأدى إلى توتر أعصاب فان جوخ ليحدث بينهما أكثر من مشاجرة ليرحل جوجان تاركاً فان جوخ التي ظلت حالات الهياج الجنوني تعاوده من حين لآخر حتى قام في إحداها بقطع آذنه وربط رأسه المصاب ثم قدم الأذن المقطوعة في لفافة إلى محبوبته التي طلبت منه أذنه خلال إحدى مداعباتها له.
وعندما عاد إلى بيته أغمي عليه، ولم يفق إلا في المستشفى، وعندما استرد صحته طاردته أنظار أهل البلدة، وصيحات أطفالها، فانهارت أعصابه.
ولم يجد أخوه حلاً غير نقله إلى مستشفى للأمراض العقلية بالقرب من أرل، وهو المستشفى الذي مكث فيه عاماً، وسمح له بالرسم فيه، فظهر في لوحاته بهذه المرحلة شيء من عنف نوبات الصرع التي تعرض لها، وعندما نجح أخوه في بيع إحدى لوحاته بمبلغ 400 فرنك، اقترح أن يستخدم هذا المبلغ في الاستشفاء بمصحة خاصة قرب باريس يشرف عليها طبيب يدعى دكتور جاشيت، وهو من هواة الفن.
وقد أمضى هذا الطبيب أوقاتاً طويلة في صحبته، ولكن نوبات الصرع راحت تتوالى بانتظام فسئم جوخ الحياة فترك رسالة انتحاره، وخرج إلى حقل مجاور، وأطلق على نفسه الرصاص، لكنه لم يمت على الفور حيث نقله تيو إلى المستشفى الذي مات به بعد يومين، وهو لم يتجاوز السابعة والثلاثين من عمره، بعد أن رسم أكثر من 700 لوحة ونحو 1000 رسمة.
مات معدماً، هزيلاً، نحيلاً، مهووساً، بعد أن طارده مرض الحُب وقذف به إلى مصحة عقلية، مات فان جوخ ليبدأ العالم بعدها بسنوات بتذكره بأعماله.
الآن، لوحاته تقدر بملايين الدولارات، وهو كان يعيش أياماً بأكملها على رغيف خبز واحد، لتنتهي بذلك سيرة من كانت عباراته لا تقل براقة ولمعاناً عن لوحاته فقد كان يردد دائماً «إنني أحتاج الأقارب والأصدقاء كأيّ أحد آخر، أحتاج الحبّ والوصال الحميم لست صخرةً ولست من حديد كصنبور أو عمود إنارة أنا أضع قلبي وروحي في عملي، وقد فقدت عقلي بسبب ذلك».











