ذكريات صحفية : أم كلثوم ترفض إستكمال رحلتها بالطائرة!
بقلم : أحمد عمر
مؤسس ورئيس تحرير مجلة ماجد الأسبق
كنت أجلس على مكتبي في صالة تحرير جريدة الأخبار، حين دقّ جرس الهاتف، أمسكت بالسماعة لأجد أن المتحدث على الطرف الآخر هو الصحفي الكبير الأستاذ مصطفى أمين. قال لي: اتصل الآن بأم كلثوم، واسألها لماذا غادرت الطائرة التي كانت تستقلها في الصباح متجهة إلى أوروبا؟ أعطاني رقم هاتفها وكان ٨٠٨٠٨٠.
اتصلت بالرقم، وردت عليا سيدة قلت لها: من فضلك.. هل أستطيع أن أتحدث إلى السيدة أم كلثوم؟ جاءني الرد: أيوه، تقدر تتحدث مع السيدة أم كلثوم.
انتظرت قليلاً لأسمع صوت نفس السيدة تقول: ماذا تريد أن تقول للسيدة أم كلثوم؟ قلت: حضرتك السيدة أم كلثوم؟ قالت: أيوه. أنا السيدة أم كلثوم. كان صوتها مختلفاً تماماً عن صوتها الذي أطرب الملايين.
قلت لها: لماذا ألغيت رحلتك وغادرت الطائرة وعدت إلى بيتك؟ الأستاذ مصطفى أمين طلب مني أن أوجِّه لحضرتك هذا السؤال. ضحكت قائلة: لحق مصطفى أمين يعرف الخبر؟ أنا فعلاً غادرت الطائرة قبل إقلاعها بقليل. أخبرنا قائد الطائرة أن الإقلاع سيتأخر قليلاً لإصلاح خلل اكتشفه المهندسون قبل إقلاع الطائرة! قررت إلغاء السفر وعدت إلى بيتي!
العالم.. الإنسان!
هل تذكرون الأستاذ محمود أمين العالم؟ كان كاتباً مرموقاً، وأكاديمياً نابغاً، وفيلسوفاً مجدداً. تولى عدة مناصب، منها رئاسة المؤسسة العامة للكتاب، مؤسسة المسرح، ومؤسسة أخبار اليوم.
أذكر أول يوم تولى فيه العمل في أخبار اليوم. فوجئنا بدعوة للقاء عاجل لجميع العاملين في أخبار اليوم، وكان المتحدث هو نائب رئيس الجمهورية في هذا الوقت، السيد أنور السادات.
حضر اللقاء مئات العاملين، وعلى المنصة الرئيسية جلس أنور السادات، وبجواره الأستاذ محمود أمين العالم. قال السادات بطريقته المعهودة وبلغة عربية فصيحة: أقدم لكم أخي وصديقي الأستاذ محمود أمين العالم، رئيساً لمجلس إدارة مؤسسة أخبار اليوم. استطرد السادات مؤكداً ومشيداً بقدرات الأستاذ العالم، متمنياً له النجاح في مهمته الجديدة.
عمل الأستاذ العالم في أخبار اليوم فترة قصيرة. أذكر يوم إبلاغه بنبأ تنحيته عن منصبه. وصل أنور السادات إلى أخبار اليوم مساء، واتجه مباشرة إلى مكتب محمود العالم، الذي لم يكن موجوداً.
كان مدعواً في حفل زفاف أحد أقاربه. طلب السادات استدعاءه على عجل، ليخبره بنبأ تنحيته عن العمل رئيساً لمجلس إدارة أخبار اليوم. الشهور التي أمضاها الأستاذ العالم في أخبار اليوم، حاول خلالها تطوير العمل، لكن الأجهزة الإدارية بالمؤسسة لم تكن على وفاق معه، فحدث خلل في إدارة العمل.
كل ما ذكر كان مقدمة لأروي واقعة تستحق الذكر، وكنت أحد أطرافها. ذات مساء دخلت بالصدفة إلى مكتب مجاور لصالة تحرير الأخبار. فوجئت بوجود أحد الزملاء، وكان يشغل منصب رئيس أحد الأقسام.
كان يميل برأسه على المكتب الذي يجلس عليه. كان يبكي، بل ينتحب بتعبير أدق. كانت تقف بجواره ابنته التي لم تكن تتجاوز الحادية عشرة من عمرها، وهي تحاول تهدئته قائلة بصوت حزين: لا تبك يا أبي. ربنا يفرجها. لا تبك أرجوك.
فوجئت بالمشهد، وسألت الابنة عمّا حدث. روت لي قصة مؤثرة. قالت إن أباها مريض ويتعاطى أدوية عديدة، يؤدي التوقف عنها إلى تعرضه لأزمات صحية خطيرة. وأضافت أنه اعتاد الحصول على الأدوية من صيدلية، على أن يسدد ثمنها حين يقبض راتبه.
في هذا المساء توجه إلى الصيدلية للحصول على الدواء، لكن صاحبها اعتذر عن تقديم الدواء، لأن ديونه زادت على الحد.
لم أتردد لحظة واحدة، أمسكت سماعة الهاتف، وطلبت الأستاذ محمود العالم. بادرته قائلاً وأنا منفعل: هل هذا معقول؟ في عهد رئاستك لأخبار اليوم، يبكي رئيس قسم، لأنه لا يملك ثمن الدواء. إن حياته مهددة بالخطر.
قاطعني الأستاذ العالم قائلاً: كيف يحدث هذا؟ غير مقبول؟ من أين تتكلم؟ أخبرته عن مكاني، قبل مرور خمس دقائق كان الأستاذ العالم أمامي يطمئن الزميل المريض، ويهدئ من روعه هو وابنته. وعلى الفور تم نقل المريض إلى المستشفى على نفقة أخبار اليوم.
السائق.. المثقف!
كان الأخوان علي ومصطفى أمين مؤسسا دار أخبار اليوم متناقضين في أمور عديدة. الأول رغم طيبته الشديدة كان ينفعل بسرعة ويهدأ بسرعة. كان الاثنان يشاركان في وضع الخطط التي تكفل حسن سير العمل في كل أقسام الصحف والمجلات التي تصدرها الدار.
أحد القرارات المهمة التي اتخذها الأستاذ علي أمين، ضرورة حضور المحررين قبل الساعة التاسعة صباحاً، والتوقيع على ساعة الحضور والانصراف الموجودة في الطابق الأرضي. كان علي ومصطفى أمين أول من يوقع ويحرصان على الحضور في الوقت المحدد، ليكونا قدوة لبقية العاملين.
كانت اجتماعات الأقسام تعقد في صالة التحرير. كنت أحضر اجتماع قسم التحقيقات الصحفية، بجوارنا كان زملاء آخرون يحضرون اجتماع قسم العمال، الذي تأخر رئيسه في الوصول، فعقد الاجتماع برئاسة نائبه.
دق جرس الهاتف وكان المتحدث كما علمنا هو الأستاذ علي أمين. سأل عن رئيس القسم وحين علم أنه تأخر في الحضور، راح يردد كلمات غاضبة، ويصف رئيس القسم بالتقصير، وعدم تحمل المسؤولية. عرفنا كل هذه التفاصيل من الزميل الذي تلقى المكالمة.
بعد قليل حضر رئيس قسم العمال، وأخبره زملاؤه بمكالمة الأستاذ علي أمين وغضبه. ابتسم رئيس قسم العمال، وقال إنه سيتصرف.
كنا قلقين عليه، لكنه طمأننا. أمسك سماعة الهاتف بكل هدوء، وطلب الأستاذ علي أمين. جاءه الرد بكلمات غاضبة كان بعضها يصل إلى مسامعنا، والباقي رواه لنا رئيس قسم العمال.
قال له علي أمين إنه غير جدير بمنصبه، الذي يتمناه الكثيرون، وإنه يستحق الجزاء. حاول رئيس القسم تهدئته، ونجح أخيراً، ليخبر الأستاذ علي أمين عن سبب تأخره.
قال إنه استيقظ من النوم مبكراً لحضور اجتماع قسم العمال. استقل الباص الذي ينقله من أمام بيته إلى قرب أخبار اليوم. قبل أن يصل بدقائق توقف السائق أمام مقهى شهير في شارع فؤاد، الذي أصبح اسمه شارع 26 يوليو.
نزل السائق من الباص، ودخل المقهى واسمه علي بابا، وجلس يقرأ صحيفة وهو يشرب كوبا من الشاي، رافضاً احتجاجات الركاب.
قاطعه علي أمين متهماً السائق بالإهمال وتعطيل مصالح الناس، وطالب رئيس القسم بأن يتقدم بشكوى ضده، والتوصية بفصله ليكون عبرة لغيره.
حاول رئيس القسم تهدئة علي أمين، وقال له إنه توجه بنفسه إلى السائق الذي كان لا يزال يحتسى كوب الشاي وهو يتصفح جريدة الأخبار.
قال السائق إنه لن يتحرك من مكانه قبل أن ينتهي من قراءة المقال الذي بدأه. سأله عن المقال فقال إنه مقال علي أمين، بعنوان فكرة، الذي ينشر يومياً.
قال رئيس القسم إن علي أمين هدأ تماماً، وقال له إن هذا السائق مثقف، ويستحق التشجيع، بل إنه طلب منه أن يتصل برئيس هيئة النقل العام، ويطلب منه أن يكافئ هذا السائق المثقف.
هذا ما رواه لنا رئيس قسم العمال. سألته هل هذه الواقعة صحيحة، أم أنه اخترعها لينجو من لوم علي أمين؟ ابتسم.. ولم يعلق!
أحداث وذكريات جديدة، موعدكم معها العدد القادم، بإذن الله.