د. عمرو بسطويسي : «بوركيني».. ولا تِبَكِّينى.
ندرك أن المجتمع المصري الكبير له سماته المشتركة، وأنه عندما ينقسم إلى مجتمعات أصغر يحمل معه ذات السمات إلى تلك المجتمعات الأصغر.
وعلى الرغم من التباين الواضح بين طبقات المجتمع المصري، إلا أنه يتوحد عادة في سمات مشتركة. فالمصريون باختلاف طبقاتهم يتميزون بخفة الدم وسرعة البديهة، التي تتفاقم في بعض الأحيان إلى ما يسمونه «الفهلوة» في العامية المصرية.
ولم يكن التشابه ونقيضه التباين في المجتمعات المصرية أكثر وضوحًا وظهورًا، كما أصبح بعد ظهور صفحات التواصل وتطبيقات الاتصال، مثل: «الواتس آب» وغيره، خاصة على ما يسمى بالمجموعات «groups»، حيث تبدأ المناقشات والسجالات الكتابية والكلامية باستخدام الرسائل الصوتية.
وما بين مستمع فقط ومشارك، تحدث في بعض الأحيان نقاشات وتجاوزات تدعو إلى العجب.
وتصادف أنني مشارك في واحدة من مجموعات الـ«واتس آب» الخاصة بقرية من قرى الساحل الشمالي، والمصنف تحت اسم «الشرير»، حيث كل شيء مبالغ فيه، من أسعار العقارات إلى الخدمات والسلع، وصولًا إلى تصرفات وطبيعة البشر!
وعند البشر، نجد البعض من أهالي تلك التجمعات وقد انخرطوا وخضعوا لتلك المتغيرات غير المنطقية وذابوا فيها، وتوهموا أن ذلك هو أفضل حال، بينما نجد البعض الآخر وقد تمسك بتلابيب المنطق وبقي رافضًا تلك العشوائية الفكرية واللا منطق في كل شىء.
والحقيقة أن مجموعات الـ«واتس آب» في تلك القرية السياحية، ليست واحدة وحسب، بل هناك مجموعة عامة وأخرى خاصة بالإيجارات وثالثة للنساء فقط، وبعضها لتسهيل الاستخدام المشترك للمركبات وغيرها للأمهات الباحثات عن أطفال ليلعبوا مع أطفالهن، وغير ذلك كثير.
وبالطبع تحدث بين حين وآخر بعض المشاحنات بين الملاك على مواضيع محل اختلاف، ولكن أغربها، والذي أثار ضجة كبيرة، خاصة بين نساء القرية، تلك التي أُثيرت على «جروب» خاص بالسيدات، حيث انبرت واحدة منهن في رسالة صوتية مطولة، بمهاجمة النساء اللاتي ترتدين «البوركيني»، وهو لباس السباحة الخاص بالمحجبات، حيث سردت حُجتها لهذا بأن لباس السباحة التي تعرفه ويعرفه العالم هو المايوه ذو القطعة أو الأفضل ذو القطعتين أو «البكيني»، أما «البوركيني» هذا فهو بدعة وأمر دخيل على شواطئنا الغراء!
وأسهبت السيدة في ذكر مساوئ البوركيني لأنه يؤذي عينيها، وأنه يَنُم عن مستوى اجتماعي أقل مما يتناسب مع قرية الساحل الشرير تلك، بل طالبت بأن تكون هناك أماكن مخصصة لنسوة «البوركيني» بعيدًا عن نسوة «البكيني»!
لم تتوقف السيدة عند هذا الحد، بل انطلقت لتنال من الرجال المتزوجين من نسوة «البوركيني» واتهمتهم بأنهم يتركون ما أحل الله لهم من نساء «البوركيني»، وانطلقوا بأعينهم «اللي تندب فيها رصاصة» لينظروا إلى نسوة «البكيني»، وحسب تعبيرها «كل واحد يبحث عما ليس لديه!».
طبعًا، قامت الدنيا ولم تقعد. وبدأت «موقعة البوركيني» على صفحات الـ«واتس آب»، وانطلقت نسوة «البوركيني» للرد على زعيمة «البكيني» ليذكروها بأن من ترتدين «البوركيني» في تلك القرية هُن من عِلية القوم ومن فاحشي الثراء، وأن من «البوركيني» ما يتعدى سعره عشرات الآلاف من الجنيهات. أما ما ذُكر في شأن الرجال الذين يتطلعون بأعينهم إلى نسوة «البكيني» فلا يتسع المجال هنا لذكره!
حقيقة، إنه من العجب العُجاب أن نرى ونسمع في هذا الزمان هذه النوعية من الجدالات، وأن ندرك وجود هذا التصنيف للبشر على أساس نوع رداء السباحة، وأن نرى الناس يتخاصمون على هذا التصنيف المجتمعي.
مع الأسف إن جزءًا كبيرًا من المجتمع المصري بدأ ينحدر في هوة «الفئوية» وتصنيف البشر حسب شكلهم وردائهم، بينما تدعو الأديان إلى التسامح، وأن يهتم كل منا بأمره فقط ويدع الخلق للخالق.
احترام الاختلاف هو من سمات المجتمعات المتحضرة التي يتشدق البعض بأنهم ينتمون لها.
هذا الربط الذهني بين رداء الإنسان ومكانته الاجتماعية لهو من علامات التردي الفكري.
أنا لست مع أو ضد لباس سباحة معين، فهذا ليس من شأني، ولكنني أرى أن كل طرف طالما ذهب إلى الشاطئ للاستمتاع بوقته، فعليه أن يحترم الطرف الآخر، وعلى كل منهما غض البصر عن الآخر وعدم التدخل في شئونه، أو فرض شكل معين عليه ليرضي ذوقه هو وما يظنه الأفضل.
هذا النوع من التمييز الطبقي استفحل في مصر، مؤخرًا، ويظهر جليًا في فصل الصيف ومع تقسيم الساحل الشمالي إلى طيب وشرير.
حقيقة، وبعد حوالي ثلاث سنوات قضيتها في الساحل الشرير، فإن نفسي تتوق إلى الساحل الطيب، وتحلم بمصيف بلطيم وجمصة ورأس البر.. جمال البساطة وبساطة الجمال تَجُب الساحل الشرير بكل ما فيه من بهرجة زائفة وتلوث مجتمعي.
نفسي تتوق إلى تلك البساطة وعدم التكلف، وأن يكون كل شيء بقيمته الحقيقية، ليس من الخُيلاء والتفاخر بأن أشترى أي شيء بأضعاف أضعاف ثمنه لمجرد التفاخر الأخرق ولسفاهة الفكر، لأننا سنُسأل عن مالنا فيما أنفقنا.
ونصيحتي لرجال الساحل الشرير؛ «إذا أردت أن ترى البكيني، فتخلص من البوركيني»، وشرُ البلية ما يُضحك.